«التطبيع» الذي يريده الإسرائيليون 2-2...حسن خضر

الثلاثاء 20 نوفمبر 2018 12:36 م / بتوقيت القدس +2GMT
«التطبيع» الذي يريده الإسرائيليون 2-2...حسن خضر



بلا لف ولا دوران، ينبغي القول إن العدد الأكبر من النخب الحاكمة، والأنظمة القائمة، في العالم العربي، يجد نفسه في خندق واحد مع إسرائيل، ليس لأنهم يحبونها، لا أحد يحبها، ولكن ترجمة لضرورات البقاء، التي تتفاوت حدتها، كما تجلياتها، من نظام إلى آخر. 
أما كيف ولماذا وصلت النخب الحاكمة، والأنظمة القائمة، إلى وضع كهذا فيمكن العثور على تفسيراته المُحتملة في تضافر عدد من العوامل التي تشكّل، فرادى ومجتمعة، ما يرى فيه هؤلاء تهديداً وجودياً، وما يبرر في نظرهم "تسوية الأوضاع" مع إسرائيل، وكما يبدو بشروطها.
على رأس قائمة التهديدات الوجودية نضع ثورات الربيع العربي. صحيح أنها أُجهضت، وما جاء في أعقابها كان كارثياً، ولكن هذا كله لا يكفي لحجب حقيقة أن ملايين البشر خرجوا للمطالبة برحيل حكّامهم، في عواصم عربية مختلفة، وأن كل أجهزة الأمن، وهيبة الدولة، ومهارات وكفاءة القمع، لم تنجح في مجابهة نداء: "الشعب يريد إسقاط النظام". كان النداء مُعدياً، وعابراً للحدود، ومفاجئاً، وغير مسبوق. والأهم أنه أسقط، فعلاً، عدداً من الحكّام.
ولأسباب يطول شرحها، ولا يتسع المجال لذكرها، شعر العدد الأكبر من النخب الحاكمة، والأنظمة القائمة، أن السيّد الأميركي خذلهم، ولم يتدخل في الوقت المناسب، وبالطريقة المناسبة، للحيلولة دون سقوط البعض، خاصة في مصر، وتونس، والأدهى أن أوباما لم يخف تعاطفه مع المتظاهرين. 
وهذا الشعور في جذر الكراهية العميقة لأوباما، وتنفّس الصعداء مع قدوم ترامب، وفي صميم ردة فعل أيديولوجية مزدوجة في خطاب الناجين من الغرق، ومن جلسوا على مقاعد غرقى سابقين: فموجة الربيع لم تكن لتحدث لو لم تكن "مؤامرة أميركية"، وما أعقبها من دمار وبوار يكفي لتجريمها. وردّة الفعل هذه جزء من خطاب الثورة المضادة.
والصحيح أن ما أعقب موجة الربيع من دمار وبوار نجم في جانب كبير منه عن ديناميات وتكتيكات العزل، والاختراق، والمصادرة، والتصفية، والاحتواء، التي اتبعتها قوى الثورة المضادة، والتي لم تنحصر في هذا البلد أو ذاك، بل تبلور تحالف بين مختلف أطرافها في العالم العربي، والإقليم، والعالم، وأصبح لها ما يشبه المركز والأطراف. 
والواقع أن الحروب الأهلية في بلدان عصفت بها موجة الربيع، والأعمال الإرهابية في بلدان أخرى، تمثل، في جانب منها، حروباً بالوكالة نيابة عن قوى تحالفت وتنافرت وتصارعت على دور مركز الثورة المضادة، وكان في اختلاف تكتيكاتها، واجتهاداتها، وتحالفاتها، ما عاد على بلدان الربيع بالويل والثبور.
وقد يقول قائل: وما علاقة هذا كله بإسرائيل؟
ثمة أكثر من جواب مُحتمل. ولنفكر في أكثر من اتجاه: لم يكن خذلان السيّد الأميركي لحلفاء تقليديين، في موجة الربيع التي أطاحت بهم، نتيجة تحيّزات أوباما وعواطفه الشخصية، بل نجم عن تحوّلات في سياسة الولايات المتحدة، وتراجع مكانة الشرق الأوسط في حسابات الأميركيين الاستراتيجية.
هذا، أيضاً، ما تدركه النخب الحاكمة، والأنظمة القائمة، وما تدرك معه حقيقة أن ثلاث قوى إقليمية صاعدة هي إيران وتركيا وإسرائيل تتنافس، الآن، على مركز الأولوية في الشرق الأوسط، وفي وضع كهذا تبدو القوّة الإسرائيلية أقلها تهديداً بالمعنى الوجودي.
فتركيا صاحبة ذاكرة إمبراطورية عثمانية، وطموحات بشأن دور القوّة الإقليمية في الشرق الأوسط، وزعامة العالم الإسلامي، وإيران تنافس، أيضاً، على المكان والمكانة نفسها، عبر سياسة راديكالية تنطوي في جانب منها على تقويض الأنظمة القائمة، وكلتاهما تشجّع على إنشاء ميليشيات مسلحة، وتتبنى جماعات سريّة، وتسعى لتقويض أنظمة قائمة.
أما إسرائيل فليس في خصوصية وظروف نشأتها، وصراعها مع العالم العربي، وهويتها الدينية والثقافية، وتوجهاتها السياسية، ما يجعلها مرشحة أو يؤهلها لأدوار كهذه.
ولعلها تبدو في أذهان كثيرين في أوساط نخب حاكمة، وأنظمة قائمة، أقرب إلى شركة من طراز بلاكووتر، ولكن بحجم أكبر، وعلاقات دبلوماسية، ونفوذ سياسي أوسع، خاصة في عاصمة السيّد الأميركي.
وهذا، في الواقع، على الرغم من مخاطر العلاقة معها، سر جاذبيتها الخاصة في نظر كثيرين في نخب حاكمة، وأنظمة قائمة. 
يعرف هؤلاء، بالتأكيد، أنها لن تقاتل نيابة عن أحد، ولن تعرّض حياة جنودها للخطر دفاعاً عن أحد، ولكن لديها إمكانيات استخبارية هائلة، وصناعة عسكرية وتقنيات متطوّرة جداً، إضافة إلى علاقتها الاستثنائية بالأميركيين، الذين وإن نقلوا جهدهم الاستراتيجي إلى مكان آخر، لن يغادروا الشرق الأوسط بصورة نهائية، ولن يتنازلوا عنه، فهم هنا وإلى أجل غير معلوم بما يخدم إسرائيل، وموارد النفط، وخطوط وأسواق التجارة الدولية.
وهذه الأشياء مجتمعة، أي الكفاءة الاستخبارية، والتقنية والصناعة العسكرية، والعلاقة الاستثنائية بالأميركيين، والعلاقات المتشعبّة في العالم، يمكن أن تكون ذات فائدة وفعالية وقائية هائلة للحماية من مخاطر داخلية وخارجية على حد سواء.
أما الثمن الذي يطالب به الإسرائيليون فيتمثل في فصل المسألة الفلسطينية عن بعدها القومي العربي، وقبول التصوّرات والحلول الخاصة بحل الصراع مع الفلسطينيين، وتغطية الجوانب المالية، وتخريج الجوانب السياسية، لكل حل محتمل.
وفي المقابل ثمة ما يعد به الإسرائيليون: تنمية، وتجارة، وشراكة، وأسواق، في عالم جديد وشجاع، على طريقة ما صوّره وتصوّره  ألدوس هوكسلي في رواية ذائعة الصيت، بلا أوجاع رأس أيديولوجية حول الحق والعدل والحرية والظلم، وبلا كلام فارغ عن فلسطين، أو الديمقراطية وحقوق الإنسان. 
لن ينجح هذا السيناريو لأسباب صعب حصرها، ولكن يصدق على نخب حاكمة وأنظمة كهذه القول: كالمستجير من الرمضاء بالنار.