عدد المتظاهرين ضد قانون الضمان الاجتماعي في ساحات رام الله لم يقل عن عددهم في المناسبات والأحداث الوطنية المهمة، وربما يزيد على بعضها.
إذا أضفنا لذلك المظاهرات الرديفة في عدد من المدن، وان مظاهرات واحتجاجات متنوعة ظلت تحصل في أيام عديدة خلال الأسابيع الأخيرة. وإذا أضفنا أيضا بداية تشكل أنوية لمسميات تدعو للمظاهرات وتنطق باسمها - وان كان ذلك ما زال في طور المناسبية غير المستقرة او الدائمة - فإننا نصبح أمام مشروع او احتمالية حراك جماهيري حول مطلب محدد ذي طبيعة اجتماعية.
ان يتشكل حراك جماهيري حول قضية او مطلب ذي طبيعة اجتماعية، فهذه علامة صحة ونضج في المجتمع، شرط ان يبقى الحراك داخل الإطار الوطني العام، ملتزما بثوابته وبأهدافه الوطنية، وبسننه المجتمعية والقانونية والديمقراطية.
لجهة المبدأ والحاجة والضرورة الاجتماعية بشكل عام، فإن وجود قانون للضمان الاجتماعي هو أمر طبيعي ومطلوب. وهو مكسب يؤمن للعامل والموظف حقوقه، ويضمن له كرامته في سني شيخوخته وتقاعده.
ومن الطبيعي ان يكون وجود هذا القانون مطلبا مجتمعيا في حال عدم وجوده، تنادي به وتسعى للحصول عليه الحركة الجماهيرية وقواها المجتمعية، والنقابية منها بالذات. قانون الضمان موضع الجدل يفترض انه جاء في نفس السياق المذكور، سياق المبدأ والحاجة والضرورة. وفي حالتنا الفلسطينية المحددة فإن هناك ضرورة إضافية خاصة لوجود القانون تتعلق باسترداد ما اقتطعته دولة الاحتلال من العمال الفلسطينيين الذين عملوا في مشاريعها لإضافته الى صندوق الضمان الفلسطيني.
من غير الصحيح ولا المقبول القول ان المظاهرات الرافضة للقانون قائمة على خطأ مطلق، ولا القول انها مسيّرة من جهات ذات مصالح او حسب أجندات خاصة معينة. ومن غير الجائز ولا المقبول أيضا التعامل معها على هذا الأساس، ولا ان يكون مظهر التعامل هو المظهر الأمني. هذا القول لا يلغي تماما ومطلقا احتمالية ان ينخرط في المظاهرات أصحاب مصالح اقتصادية او أصحاب أجندات سياسية، او أصحاب قناعات فكرية واجتماعية معينة للتأثير عليها ومحاولة تجييرها لخدمة مصالحهم او قناعاتهم. ولا يلغي احتمالية تسلل «بركات» الانقسام الى صفوفها ومحاولة التأثير في مسارها وطبيعتها. وتزداد فرص الاحتماليات المذكورة كلما تقدم الزمن وتعمقت الخلافات قبل الوصول الى تفاهم واقعي حول طريقة وأسلوب معالجة الاختلافات حول القانون ان في عنوان المبدأ والضرورة او عنوان تعديلات في مواد محددة في القانون او عنوان شروط وتوقيتات تطبيقه.
ما يلفت النظر، ان المطلب السائد في كل التظاهرات العامة تقريبا هو «إسقاط... إلغاء... رفض» القانون، وتتراجع الى زوايا بعيدة او حلقات نقاش نادرة مطالب واقتراحات او تعديلات محددة حول القانون في أي من العناوين المذكورة أعلاه. هذا ما يدفع الى المقدمة، من بين تفسيرات مختلفة الخلفية او الدوافع، تفسير ان الجهات المعنية بإعداد القانون لم تقم بدورها بالشكل الكافي في التفاعل والحوار مع ممثلي العمال والموظفين وهيئاتهم او جمعياتهم حول مواد القانون المقترحة ان لجهة الشرح والتوضيح وتبيان ضرورة القانون وفوائده، وان لجهة الاستماع الإيجابي والمنفتح للاعتراضات والاقتراحات والمطالب والتوقيتات.
ومن بين الجهات المعنية تبرز المسؤولية الخاصة لاتحاد نقابات العمال فهذا دوره ومسؤوليته الأولى، خصوصا وانه ظل ممثلا وعلى قدم المساواة في كل مراحل إعداد مشروع القانون. وان فترة الإعداد كانت طويلة نسبيا.
وهناك تفسير الرهبة والتطير من الجديد وغياب أي خبرة او تجربة سابقة.
لكن، لا يمكن استبعاد تفسير الخوف وعدم الثقة والاطمئنان ومعه الشك - والتشكيك أيضا- لدى طيف واسع ممن يشملهم القانون ان لجهة الحكومة والاطمئنان الى دوافعها واستمرارها وقدرتها على الالتزام والوفاء، وان لجهة النظام الفلسطيني العام من أساسه وفرص استمرار وجوده ودوره بالصيغة القائمة وبقدرته على الوفاء بالتزاماته. مبعث الخوف، لدى هذا الطيف قد يدخل فيه التطير، لكن لا يمكن تجاهل التأثير الأكبر لكل الأحداث السياسية التي يعيشها المواطن العادي وتفاعلاتها وتأثيراتها، وتعلو المخاوف مما تنذر به من تطورات وتغييرات لا يستطيع تقدير آثارها ومدى انعكاسها على أوضاعه الحياتية وعلى قدرة وإمكانية الضامنين الوفاء له بحقوقه.
مبادرات الحل والتفاهم متوفرة جادة وموثوقة:
أولها تأكيدات الرئيس نفسه بإمكانية تعديل القانون، وان التعديلات عند إقرارها ستكون صلاحياتها ومفعولها بأثر رجعي. وتبعها التزام الحكومة بنفس المضمون وتشكيلها لجنة وزارية للحوار ومناقشة المطالب والاقتراحات. ثم يأتي تحرك الكتل البرلمانية والنقابات والاتحادات المهنية والقطاعية وبحضور ممثلين عن اللجنة الوزارية التي شكلتها الحكومة للحوار لتؤكد على مبدأ الحوار وتواصله، ولتقدم اقتراحا بآلية محددة للتنفيذ التدريجي خلال ستة شهور لا توقع غرامات خلالها.
لا طريق إلا طريق الحوار المسؤول والمنفتح، والقائم على قاعدة التمسك بالقانون كمبدأ والانفتاح الواسع على كل اقتراح يتعلق بالإضافة او الإلغاء او التعديل على مواده، او يتعلق بآليات تطبيقه.