حتى قبل مقتل جمال خاشقجي العاصف، كان هناك حديث يدور في الخفاء حول تنافس على زعامة العالم الإسلامي بين المملكة السعودية وتركيا.
الزعامة الحقيقية نتيجة نهائية، وليست قرارا ملكيا أو رئاسيا، يعكسها ثقل الدولة والمجتمع: دينيا وجغرافيا واقتصاديا وماليا وسياسيا وعسكريا وعلميا وتكنولوجيا وصناعيا وثقافيا.
تركيا والسعودية تتشاركان محددات الدولة القوية: الجغرافيا والتاريخ والموارد المالية والاستقرار الداخلي وقوة الاقتصاد.
دينيا، السعودية هي القائدة للعالم الإسلامي؛ لأن فيها الحرمين الشرفيين، وهي قبلة مليار مسلم، أما تركيا فهي دولة إسلامية سنية كبيرة، وتمتلك رابع أقوى جيش في العالم، وعضو في حلف الناتو، لكنها،لا تشارك دول المنطقة اللغة العربية وتعاني من أحزمة نارية جيوسياسية تحد من نفوذها.
في السنوات الأولى، للخريف العربي، تقدمت تركيا الأردوغانية على السعودية عندما كانت قطر وقناة الجزيرة تصنعان «الثورات» وتشكلان الحكومات في مصر وتونس، وتقودان الحرب على سورية، وكانت العثمانية الجديدة تحظى بالرعاية الأوبامية للإمساك بالمنطقة الإسلامية والعربية. غير أنه في المرحلة اللاحقة، تقدمت السعودية بسقوط مشروع الإخوان في مصر، بدعم سعودي معلن.
لم تنس أنقرة الموقف المزعج للرياض، حين انتظرت المملكة بضع ساعات قبل أن تصدر بيانا تدين به الانقلاب الفاشل ضد أردوغان، لكن تركيا لم تختر مواجهة السعودية حول ما حدث وامتنعت بشكل ملحوظ عن التعريض بالمملكة مفضلة توجيه سهامها، إلى حليف السعودية، الإمارات المتحدة، متهمة إياها بدفع ثلاثة مليارات دولار لدعم الانقلابيين – جماعة فتح الله غولن -، وعكس ذلك عدم رغبة أنقرة في إشعال مواجهة مع الرياض، وتعريض مصالحها الاقتصادية للخطر.
كما لا يمكن القفز عن تصريحات أردوغان التي كان يرددها لكبار زوراه، بأنه يجب إعادة النظر في نظام الحكم الأبوي في السعودية.
وأتى مقتل خاشقجي الوحشي في إسطنبول ليضع الدولتين - تركيا والسعودية - وجها لوجه.
ولم تكن تطورات هذه الجريمة والتسريبات التي باشرت أنقرة بتمريرها حول كيفية تقطيع خاشقجي في قنصلية بلاده، سوى إحدى حلقات هذا التنافس بينهما على الرغم من البعد الإنساني والدبلوماسي العميق الذي صبغ المشهد الدموي.
وفي المحصلة، فإن كل ما حصل منذ أزمة خاشقجي، هو مجرد فصل إضافي في لعبة دبلوماسية للسير على الحبال بمهارة، لعبتها أنقرة والرياض في الصراع غير الصاخب بينهما على مدار عقود.
استطاع أردوغان تحويل أزمة اغتيال خاشقجي داخل حدود بلاده، إلى مكسب كبير، بما يملكه أردوغان من سجل تاريخي، بربح المعارك الدقيقة والمركبة.
وتمكن أردوغان من استغلال الإحراج والإرباك السعودي إلى أقصى مدى، والأهم الأخطاء الفادحة والساذجة، التي ارتكبها مخططو ومنفذو عملية الاغتيال.
كانت تركيا تقوم بتسريب ما حصل في القنصلية ساعة قتل خاشقجي نقطة نقطة، صانعة ضغطا دوليا وشعبيا غير مسبوق على الرياض، ومحولة ما بدا في بداياته بوادر أزمة لها إلى فرصة لتوجيه ضربة تاريخية للمملكة، المنافس الحالي الأكبر على الزعامة الإقليمية، وهي في ذلك، قامت بتسطير فصل جديد في صراع طويل الأمد تعود جذوره لقرون عديدة، حين أنهى العثمانيون الأتراك دولة آل سعود مرتين، قبل أن تنجح الدولة السعودية الثالثة في فرض نفسها فقط على أنقاض الخلافة العثمانية المنهارة خلال الربع الأول من القرن العشرين.
اغتيال الصحافيين والمعارضين، ليس الأول في منطقتنا العربية، بل هو الألف بعد المائة وحتى بالدول الديمقراطية وفي أعرق الديمقراطيات، تجري مخابراتها هذا النوع من العمليات القذرة، ولكن بشكل مقنن.
غير أن اغتيال خاشقجي، أثار ضجة غير مسبوقة، ربما لأن عمليات التصفية كانت تتم بمهنية وحرفية أكثر، أو كانت أقل وقاحة من واقعة تقطيع خاشقجي، والأهم لأنه وقف وراء عملية تحشيد الرأي العام، فضائيات جبارة، وسخرت إمكانيات مهوله لهذه القضية، في سياق تصفية الحسابات بين قطر والسعودية، والإخوان المسلمين والسعودية.
ومن أكثر التعليقات التي تستحق الوقوف عندها حول جريمة اغتيال خاشقجي، حديث رئيس الاستخبارات السعودية السابق، الأمير تركي الفيصل، الذي قال: في الحقيقة، بعض الأحيان يتمكن أناس في موتهم من تحقيق أهداف بدت في حياتهم مستحيلة، أو ربما حتى ساذجة. وبصرف النظر عما سيحدث في الأخير، يبقى المؤكد أن وجه السعودية سيتغير بسبب مقتل خاشقجي.
لقد شكلت جريمة قتل خاشقجي، كارثة إنسانية وسياسية لحقت بالمملكة العربية السعودية، وهي بمثابة خطأ قاتل إستراتيجيا، وتكتيكيا، ارتكبته أجهزة سعودية وتسببت بفضيحة كبرى ستطبع المشهد إلى وقت غير قصير.
فعملية الاغتيال، لا يوجد لها أي ركن من أركان عمليات الاغتيال السرية المتعارف عليها، وهي تتسم بالبدائية والغباء الأمني.
فكيف، وإن تم اختيار مسرح تنفيذ الجريمة، في العاصمة الإقليمية للإخوان المسلمين - إسطنبول -، والمعروفة بقوة أجهزتها الأمنية، وتستهدف شخصية معروفة بشبكة علاقاتها مع مستشاري أردوغان، مثل خاشقجي.
ثم أي مخطط هو من قرر، أن تتم تصفية أردوغان في مبنى القنصلية السعودية، وهذا خلل أمني فادح ينم عن استهتار ورعونة وبلاهة من هم وراء هذه العملية.
والأهم كيف، يقوم على تنفيذ هذه العملية، طاقم أمني، معروف بصلاته الوثيقة، بشخصية حساسة في النظام السعودي!، ثم ألم يتعلم، من قام بالعملية، من عملية اغتيال الشهيد رفيق الحريري، حين تمكن المحققون من تتبع – داتا الاتصالات - ساعة وقوع الجريمة، وتحليل أكثر من مليون اتصال، للتوصل إلى هوية القتلة.
ولقد وصف ضاحي خلفان، قائد شرطة دبي السابق، عملية قتل خاشقجي بأنها «عملية استخباراتية فاشلة» طالت جميع القائمين على تنفيذها.
وشكل اغتيال خاشقجي، ضربة قي الصميم، للدبلوماسية الهادئة، أو دبلوماسية الأقدام الثقيلة التي اشتهرت بها المملكة السعودية.
سبق ذلك، مؤشرات، حول تحولات هيكلية في السياسية الخارجية للمملكة مع قدوم محمد بن سلمان لولاية العهد، والتي اتخذت طابعا هجوميا، وليس دفاعيا، كما جرت العادة.
وربما يمكننا وصف السياسة السعودية، خلال السنتين بالتنمر، من خلال مراجعة شريط الأحداث، والذي يبدأ، بالحملة العسكرية ضد الحوثيين في اليمن، مرورا باعتقال الأمراء ورجال الأعمال في فندق الريتز في الرياض، بتهم الفساد،و لا ينتهي عند قرار مقاطعة ومحاصرة قطر، ولقد شكلت الإجراءات السعودية الكاسحة ضد كندا، على خلفية تدخلها بالأمور الداخلية للمملكة، دليلا على أن هناك مملكة جديدة قيد التشكل.
وما حدث مع قضية خاشقجي، رغم أنه مؤلم وصادم جدا، إلا أنه يمثل هزة عنيفة، من أجل وضع مشروع السعودية الجديدة، على السكة، وهي تحتاج في سبيل ذلك إلى تحديد آليات اتخاذ القرارات، وتوزيع المسؤوليات، وإلى توسيع عملية المشاركة في صناعة القرارات المهمة، وفي صناعة السعودية الجديدة.