عن «مسطرة» الدولة و«مساطرنا»...عريب الرنتاوي

الجمعة 09 نوفمبر 2018 11:36 ص / بتوقيت القدس +2GMT
عن «مسطرة» الدولة و«مساطرنا»...عريب الرنتاوي



للأردنيين، أفراداً وجماعات، "مساطرهم" الخاصة، بها يقيسون كل شيء، ووفقاً لتدريجاتها، يحكم على الأفراد والظواهر والسلوكيات والأخلاقيات والقيم. كل ما هو خارج عن هذه "المساطر" يصبح غريباً، ووافداً من فضاء آخر، وأحياناً يصبح هجيناً ومداناً وتلصق به أشد النعوت والاتهامات.
"مساطرنا" باتت حادة جداً، وجارحة على نحو خطر وتشبه السكاكين حيناً، وتقطع كـ"المناشير" في أحيان أخرى. هنا، قد تدخل لغة "التحريم" و"التكفير" و"الزندقة" و"التجديف" و"الانحلال" و"الانحطاط"، في وصف "المختلف"، أياً كان هذا المختلف، فكرياً وسياسياً وسلوكياً أو اجتماعياً.
"مساطرنا الجمعية" أكثر خطورة من "مساطرنا الفردية"، هنا يتعمم الاتهام والإدانة، لتتجاوز الفرد كما في حادثة الفنانة إياها إلى الجماعة البشرية. ويجري الزج بجموع غفيرة في أضيق الزوايا، وتحميلها وزراً لا تحتمله، إن كان في الأمر أوزار من الأصل. ولأنها كذلك، فإن هذه المساطر، مصممة على قياس فئات اجتماعية مقابلة، ينسب لها الفضل كله، ولا شيء سوى الفضل ومكارم الأخلاق.
ولأننا شديدو الثقة والاعتزاز بـ"مساطرنا" ونحرص على اصطحابها معنا في حلّنا وترحالنا، فإنه من الطبيعي، أن على الأحزاب والتيارات السياسية والفكرية ما ينطبق على الأفراد ونشطاء السوشيال ميديا، وبدرجة أشد خطورة، لا أقل من لغة الإقصاء والذم والقدح والاتهام. بل ولا بأس من تكفير قوم إن خرجت مواقفهم عن مسطرتنا. ولا بأس من السخرية من قوم وتسفيههم إن نحن رأينا فيهم خلاف ما نراه في المرآة حين نحدق بها.
الأصل، أنه من بين جميع "المساطر" الفردية والجمعية، ثمة "مسطرة واحدة"، يتعين أن تكون حاضرة للقياس والاحتكام... "مسطرة الدولة" والولاية العامة والقانون السيّد. لكننا في حالتنا، نشكو تكاثر المساطر الفرعية وغياب المسطرة التي نحتاجها: مسطرة الدولة، التي لم نعد نعرف إن كانت مدنية أم أصولية، منفتحة وتعددية أم مغلقة، حامية لحقوق الأفراد والجماعات وحرياتهم وتعدديتهم، أم مانعة لها. قدرتنا على قراءة مسطرة الدولة وتدريجاتها، باتت ضعيفة، إذ يبدو أنها مصنّعة من مادة لزجة، قابلة للتمدد والتقلص، للامتداد والانكماش، وفقاً لهبوب رياح السوشيال ميديا، ودرجة علوّ الأصوات المرتفعة.
الدولة بمؤسساتها العامة، والحكومة على رأسها، تبرهن يوماً إثر آخر، أنها قابلة للابتزاز. تأخذ القرار وتتراجع عنه، تعطي الموافقة وتسحبها. تحسب حضنها واسعاً ورحباً حيناً، وكفيلاً باستيعاب جميع أبنائها وبناتها، حتى الخطّائين منهم والعصاة. لكنك نستيقظ صبيحة اليوم التالي، فترى صدرها قد ضاق بعد أن رحب، فتستنفر سلطاتها ضد مؤتمر فكري أو حفل موسيقي في مدرسة أو تضيق بحفلة في "فضاء خاص"، لمجرد أن أحدهم سرّب صورة من هنا أو فيديو من هناك.
لست قيّماً على أخلاق الناس ولا أنا بحارس على ضمائرهم وعقولهم ومعتقداتهم، وأسعى جاهداً إلى كسر "مسطرتي" الخاصة، دون توفيق غالباً. ولكن ليس من حق الدولة أن تكسر "مسطرتها"، وأن تترك أمر القياس والحكم لكل من هبّ ودبّ، وأن تختار الخضوع لأكثر الأصوات ارتفاعاً أو شغباً بالأحرى، لا يُذكّر إلا بشغب الملاعب المرذول، وهنا مكمن العلة والداء.
لن تستقيم لنا حال إن لم تحم الدولة تعدديتنا، فكرياً وسلوكياً واجتماعياً وثقافياً، طالما أنها لا تحدث الفوضى أو تلحق الضرر بالنظام العام. لا حق للدولة في اقتحام الفضاءات الخاصة للأفراد، فهذا حق مكفول طالما أنه لا يمس الفضاء العام. ومن غير المقبول أن تُظهر الدولة، كل هذا الضعف، وكل هذا الاستعداد والقابلية للخضوع للمساومات والمناقصات والابتزازات.
فمن "ينتصر" اليوم في معركة إلغاء ندوة فكرية أو حفل موسيقي بمدرسة، سيستقوي على الآخرين المختلفين، وسيطاردهم في عقر دارهم. نجاح المحاولة يشجع على تكرارها، بما يتهدد حقوق ومصالح آخرين، وإن إدارة أذن من طين وأخرى من عجين لصوت الابتزاز والإرهاب الفكري، فتلكم أقصر الطرق، لإعادة الاعتبار لـ "مسطرة الدولة" وإعلائها على شتى المساطر.