أردوغان وسياسة المساومات الكبرى..محمد ياغي

الجمعة 02 نوفمبر 2018 01:02 م / بتوقيت القدس +2GMT



اليوم، الجميع يعلم أن تركيا كانت على معرفة بتفاصيل الجريمة البشعة التي تعرض لها الصحافي السعودي جمال خاشقجي بعد الساعات الأولى لوقوعها. 
لكن تركيا أردوغان قد اختارت، بدلاً من نشر الحقيقة وعلى دفعة واحدة، أن تنشرها بالتقسيط وعلى دفعات طويلة، لم نصل إلى نهايتها بعد. 
لماذا اختارت تركيا هذا الأسلوب الذي يشبه مسلسلاتها الطويلة؟ هل كانت مجرد صدفة أن يتم الإفراج عن القس الأميركي أندرو برونسون أثناء التحقيق في مقتل خاشقجي، وهو المتهم بالتجسس لحساب أميركا؟ 
لماذا يسعى أردوغان إلى الحفاظ على صداقة الملك السعودي بينما يستهدف في الوقت نفسه ولي عهده؟
بداية علي أن أقول إن حلقات "المسلسل التركي" حول مقتل خاشقجي لم تصل بعد إلى ذروتها وأن هنالك أوراقا مازالت تركيا تحتفظ بها وهي تريد استغلالها خلال مساوماتها الشاقة مع العربية السعودية والولايات المتحدة في نفس الوقت.
في تقديري أن المسألة لا علاقة لها بالاقتصاص من الجهة التي وقفت خلف جريمة الاغتيال، أو بمعنى أدق، بالبحث عن العدالة في قضية خاشقجي، ولكن في الإستراتيجية التركية في العالم العربي. 
إخراج القس الأميركي برونسون من السجن بعد حكم مفاجئ ببراءته يهدف إلى تحسين العلاقات مع أميركا وبالتالي إلى السعي إلى ضمان مباركتها للمشروع التركي الذي يستهدف السعودية.
في تقدير تركيا، فإن الرجل الذي وقف خلف انهيار حكم الإخوان المسلمين في مصر، والرجل الذي دفع باتجاه معاداة دولة قطر وحصارها، والرجل الذي تخلى عن دعم "ثوار" سورية وشق التحالف العربي ـ التركي في الملف السوري، هو ولي العهد السعودي. 
في جميع هذه الملفات كانت تركيا هي من أكبر الجهات المتضررة. حتى نتعرف فقط إلى حجم الاهتمام التركي في العالم العربي، يجب الإشارة إلى وجود أكثر من ثلاثة آلاف صحافي عربي في تركيا. 
العدد الأكبر منهم يعمل في فضائيات تبث للعالم العربي من تركيا، ومعظمهم من تنظيم الإخوان المسلمين الذي أصبح في يوم وليلة مطارداً ومتهماً بالتآمر مع أميركا رغم علاقته الوطيدة مع الأنظمة العربية التي استمرت عشرات السنين.
تركيا مهتمة بالعالم العربي لأسباب اقتصادية وأمنية وأيديولوجية. 
اقتصاديا، تركيا تريد أن يكون العالم العربي سوقها التجاري الأكبر وتريد أيضاً أن يتوقف اعتمادها على النفط الإيراني والغاز الروسي، واستبداله بنفط وغاز عربي. لكن ذلك، لا يمكن أن يتحقق طالما بقي النظام السوري الحالي في مكانه، خصوصاً وأن الهيمنة الإيرانية على العراق، أكبر من تلك الموجودة على سورية.
في الجانب الأمني، تركيا تشعر بأن التهديد الأساس لأمنها يأتي من حدودها الجنوبية السورية ـ العراقية حيث يتمركز الأكراد. الإطاحة بالنظام السوري واستبداله بنظام موالٍ لها، يحمي جزءا أساسيا من حدودها. وهذا النظام الموالي، يمكن تمكينه أيضاً للعب دور في العراق بالتحالف مع الجماعات السنية الأهلية فيه.
على صعيد الأيديولوجيا، حزب الحرية والعدالة التركي، هو نسخة متقدمة عن حركة الإخوان المسلمين. الإخوان بالتالي هم الأقرب له فكرياً، وهم الحصان الذي يمكن لأردوغان أن يمتطيه لتحقيق إستراتيجيته في العالم العربي. 
هنا يجب التذكير بأن وجود مصالح لتركيا في العالم العربي لا يعني أن على العرب معاداتها. هذه المصالح إذا أحسن العرب فهمها يمكن البناء عليها للاستفادة من تركيا في خلق توازنات إقليمية تمكن العالم العربي من تحقيق قدر أعلى من الاستقلال السياسي والاقتصادي. 
تركيا وإيران مثلاً تتنافسان في المنطقة لكن ذلك لا يمنعهما من التبادل التجاري ومحاولة التلاقي في ملفات سياسية عديدة. هكذا تفعل الدول القومية التي تهتم بمصالحها.
سياسات ولي العهد السعودي، وبمعزل عن قضية خاشقجي، تتعارض مع الإستراتيجية التركية وكانت سبباً محورياً في إضعافها إن لم نقل إفشالها: دعم إسقاط حكم الإخوان في مصر، محاصرة قطر الحليف التركي، إعلان الإخوان تنظيما إرهابيا والخروج من التحالف العربي التركي في سورية. 
إذا كان هذا التحليل صحيحاً، وأعتقد بأنه كذلك، فإن مغازلة الرئيس الأميركي ترامب بالإفراج عن جونسون، ومغازلة الملك السعودي بالقول إنه يحظى باحترام وتقدير تركيا، الهدف منه خلق حالة إجماع أميركي ـ سعودي (داخل العائلة الحاكمة) ـ تركي على استبدال ولي العهد السعودي بآخر من العائلة الحاكمة. 
هذا لا يعيد لتركيا ما خسرته إستراتيجيا في العالم العربي، لكنه قد يساعد على رفع الحصار عن الإخوان في العالم العربي، وقد ينهي الأزمة مع قطر، وقد يحسن حظوظ تركيا في سورية. 
نقول "قد" لأن لا ضمانة على أن تغيرا في منظومة الحكم في العربية السعودية سينجم عنه بالضرورة، توافق في الرأي وانسجام مع المواقف التركية، خصوصاً وأن سياسة الإدارة الأميركية الحالية لا تتقاطع مع الإستراتيجية التركية. لكن التغير سيوفر لتركيا هامشاً أكبر لدفع إستراتيجيتها في العالم العربي.
هل يتمكن أردوغان من تحقيق هدفه؟ 
أميل لترجيح فشله في ذلك لسببين أساسيين:
الأول.. أن أميركا ترامب لا تريد إحداث التغيير الذي يسعى له أردوغان. إستراتيجيتها الحالية في الشرق الأوسط بنيت على أساس ما هو قائم حالياً في العربية السعودية. 
أي تغير في رأس الهرم السعودي قد يعني سياسة أخرى تجاه إيران والصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، مضافاً له خسارة لعقود مالية بعشرات المليارات مع السعودية.
السبب الثاني أن المواطنين في العربية السعودية، مما شاهدوا وسمعوا سيرفضون التدخل الخارجي، ذلك يعني أن الضغوط الخارجية ستفضي إلى حالة من التماسك داخل العائلة الحاكمة مصحوبة بدعم شعبي سعودي وهو ما يجعل من التغيير أمراً مستحيلاً.