تمهيد لمشهد سياسي جديد في الجزائر..عبير بشير

الثلاثاء 30 أكتوبر 2018 12:03 م / بتوقيت القدس +2GMT



 إذا كان بالإمكان القول: إن جمال عبد الناصر، هو الرئيس الذي يحكم من قبره.. فإنه أيضاً يمكننا القول: إن عبد العزيز بوتفليقة، هو الرئيس الذي يحكم الجزائر من على كرسيه المتحرك. هذه المقدرة على حكم بلد المليون شهيد، لم تأتِ من فراغ، فقد التحق بوتفليقة مبكراً بجبهة التحرير التي أنجبت الجيش الجزائري، ومن ثم تولى وزارة الخارجية حتى وفاة الرئيس بومدين. وعاد إلى الجزائر على مشارف نهاية «العشرية السوداء» التي أغرقت الجزائر في الدماء، ليقدم نفسه في الانتخابات الرئاسية بشعار: «جئتكم رسول حب وسلام»، وشكّل ذلك المقدمة للمصالحة ووضع «ميثاق السلم والمصالحة» في الجزائر. 
في العام 2014، أدى الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة اليمين الدستورية لولاية رابعة على كرسي متحرك، وحينها، شكّك كثيرون في احتمال إنهاء الرئيس لولايته بذلك الوضع الصحي المتدهور، وتوقعوا رحيله. اليوم، ورغم تفاقم مشاكل بوتفليقة الصحية وغيابه المطول، يعلن جمال ولد عباس رئيس «جبهة التحرير الوطني» أن الرئيس الجزائري بوتفليقة، سيكون مرشح الجبهة إلى الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها في نيسان 2019. ويقول المحلل كمال الشيرازي: «ما يحدث ليس مسرحية، إنما هو عمل حقيقي من بين أهدافه الحفاظ على الوضع القائم. اللعبة السياسية الجزائرية معقدة، والحديث عن خروج مشرف لبوتفليقة من الحكم مجرد رياضة فكرية، لأن مفهوم الشرف يختلف بين أهل القلم والإعلام ورجال السياسة، والذين يريدون تغييراً للوضع السياسي دون اقتراح للبديل أو مراعاة للتوازنات، هم أناس خارج الإطار». والسؤال الذي يطرح نفسه الآن، أي جزائر سيكون، إذا تم بالفعل ترشيح بوتفليقة لولاية خامسة!
كان من المفترض أن يخلف عبد العزيز بوتفليقة الرئيس هواري بومدين. أو هكذا، كان يتصور الرجل الذي كان وزيراً للخارجية منذ الانقلاب الذي أطاح بأحمد بن بلة وأوصل بومدين إلى الرئاسة، اعتبر بوتفليقة نفسه آنذاك، وريث بومدين الشرعي، لكن العسكر الذين بنوا دولة الجزائر ومؤسساتها السياسية والمدنية، بعد تحريرها من الاستعمار، قرروا استبعاد بوتفليقة، علماً أنه كان ينتمي إلى الحلقة الضيقة، التي لا يتجاوز عددها خمسة أشخاص، والتي كانت تحيط بومدين ولا تفارقه في أي وقت. ورغم أن عصر تولي عبد القادر المالي- لقب بوتفليقة- للخارجية في الجزائر كان أزهى عصور الدبلوماسية في البلاد، وتمكن بعبقرية منقطعة النظير تجاوز أزمات عصفت بالجزائر، استحق من بعدها لقب «عراب الدبلوماسية الجزائرية»، غير أن الجيش الجزائري أتى بالضابط الكبير الشاذلي بن جديد خليفة لهواري بومدين، باعتبار أن الرئيس القادم يجب أن يكون من داخل أسوار تاقارا - مقر وزارة الدفاع الوطنية.
لم ينس بوتفليقة يوماً ما فعله به كبار ضباط الجيش الجزائري، بما في ذلك الاتهامات بالفساد التي وجهت إليه في أثناء توليه وزارة الخارجية. ولم ينس أنه لم يستطع أن يكون رئيساً للجمهورية في العام 1999، إلا بعدما وجد كبار الضباط، أنه لا خيار آخر غير الاستعانة بشخصية تاريخية مثل بوتفليقة لترميم النظام الذي أقامه العسكر والحفاظ عليه. 
ظل الرئيس بوتفليقة يشتكي منذ مجيئه إلى الحكم، من أنه لن يرضى أن يكون ثلاثة أرباع رئيس، بسبب النفوذ الطاغي للمؤسسة العسكرية، وفي العام 2015 أطاح بوتفليقة «بصانع الرؤساء والملوك»، والرجل «الشبح» الفريق محمد لامين مدين والمعروف باسم الجنرال توفيق، والذي شغل منصب مدير المخابرات منذ مطلع التسعينيات، شهدت خلالها الجزائر تعاقب أربعة رؤساء جمهورية على الحكم. الإعلان عن إقالة الجنرال توفيق، كانت بمثابة زلزال سياسي وقع في الجزائر، فمنذ وصوله لرئاسة ما توصف بأنها أقوى مؤسسة في الجزائر- جهاز الاستخبارات العامة- أحاطت الجنرال توفيق هالة كبيرة من الغموض والتخويف من أدواره في الحكم، بما في ذلك اتهامه كونه المسير الرئيسي للحرب العشرية الجزائرية، إضافة إلى تعيين الرؤساء وشاغلي باقي المناصب الحكومية الحساسة.
وبلغت درجة نفوذ جهاز المخابرات في عهده اختراق والتحكم بمعظم المؤسسات الرسمية والاقتصادية والإعلامية الجزائرية، حتى صار الجنرال توفيق، يوصف على نطاق واسع بأقوى شخصية في النظام وبكونه غير قابل للمس، ولدرجة أطلق فيها على الجنرال ألقاب مثل «صانع الرؤساء»، «والرجل الأسطورة»، ولم يعرف الجزائريون وجهه، ولم يسمعوا صوته، ولولا صورة يتيمة له سربت إلى مواقع التواصل الاجتماعي، لكان الرجل سراً حقيقياً. واختلف الجزائريون في موقفهم من الفريق مدين، فمنهم من اعتبره «منقذ الجمهورية» من التيار الأصولي، ومنهم من وصفه بأنه «مجرم حرب» تجب محاكمته على بطش أجهزته خلال العشرية الدموية التي أعقبت إلغاء الانتخابات البلدية في الجزائر والتي فاز بها الإسلاميون. 
بدأ الرئيس الجزائري منذ 2011، صراعاً مكتوماً للتخلص من نفوذ الجنرال توفيق، عبر إقالة عدة جنرالات محسوبين عليه في جهاز المخابرات، غير أن نهاية الجنرال حصلت فعلياً، منذ أعلن الجنرال توفيق، معارضته لترشح بوتفليقة لفترة رئاسية رابعة، وفور فوز بوتفليقة بالولاية الرابعة، قام بإصدار مراسيم وتعديل قوانين تقلص من صلاحيات جهاز الاستعلامات والأمن لصالح رئاسة أركان الجيش أو لرئاسة الجمهورية. وجاءت الضربة القاضية في العام 2015، بالإطاحة بالجنرال توفيق، وبرحيله خلت الساحة الجزائرية للرئيس بوتفليقة وفريقه في بسط نفوذهم على مؤسسات الدولة.
وعلى أعتاب الحديث عن الانتخابات الرئاسية القادمة، وفي خضم النقاشات حول التجديد لبوتفليقة أو عدمه، وقعت فجأة عملية تهريب ضخمة للكوكايين في سفينة للحوم المستوردة. وليس صدفة أن هناك من خطط لاستغلال عملية تهريب الكوكايين إلى أبعد حدود، فقد كان بالإمكان حصر مفاعيلها وتطويق تداعياتها. وتبين من خلال التحقيقات أن صاحب السفينة، تربطه علاقات مع أعمدة في الدرك والشرطة والجيش. حصل على إثرها انقلاب حقيقي تمظهر في إقالة ضباط مرموقين لم يكن مسموحاً لأحد المسّ بهم من بينهم قائد الشرطة. لم تتوقف الأمور عند هذا الحد، إذ أطاح بوتفليقة بجنرالات كبار، فقد طار أيضاً قائد أركان القوات الجوية عبد القادر الوناس وقائد القوات البرية أحسن طافر. في أوسع عملية إعادة تشكيل لقيادة الجيش الجزائري. وأكمل بوتفليقة، إقالات الجيش بإقالة رئيس البرلمان سعيد بوحجة، الذي رفض قرار الإقالة، واعتبرها مخالفة للدستور الجزائري.
وفي الجزائر ومنذ الاستقلال كان جنرالات الجيش هم الذين يقيلون لا أن يقالوا، لذلك فإن هذه الإقالات شكلت زلزالاً ضخماً، لكنه في الواقع كان زلزالاً ارتدادياً لزلزال سابق ومهم وهو الذي أطاح فيه الرئيس بوتفليقة بالجنرال الذي لم يكن الجزائريون يجرؤون على قول اسمه ويشيرون إليه بـ -هو- وهو الجنرال توفيق. 
وليس بالضرورة أن تمهد هذه الإقالات لولاية خامسة لبوتفليقة، بقدر ما ترسم مشهداً سياسياً جديداً بوجود بوتفليقة أو بعدم وجوده، ويقول المؤيدون لبوتفليقة: إن هدفه الكبير هو جعل الجيش الذي يتدخل ويقرر في السياسة والاقتصاد، جيشاً أكثر مهنية وبعيداً عن السياسة.