تكلمنا في قسمين سابقين عن طبقة وسطى في سعودية الثمانينيات، ويبقى أن نُضيف أن مخيالها السياسي نجم عن تضافر العقائد الوهابية النجدية، وهي معادية أصلاً للسياسة، مع الكفاءة الأيديولوجية والتنظيمية للإخوان المسلمين، أصحاب اليد الطولى في مؤسسات التعليم السعودية.
لذا، اتسم "السياسي" في مخيال الطبقة المعنية بكونه جملة من التصوّرات التي يمكن ترجمة طاقتها الإيجابية في نشاط خارجي لا في الحقل السياسي المحلي، غير المسموح بوجوده أصلاً، وبهذا كان "الجهاد" الأفغاني، مثلاً، حلاً مثالياً لاستثمار وتفريغ كل عاطفة سياسية مُحتملة خارج البلاد.
وقد جرى توليد "السياسي" لا بوصفه مستقلاً عن "الديني" بل من تمثيلاته. و"تصادف" أن "الديني" لم تكن لديه مشكلة قيمية أو أخلاقية مع إمكانية التوسّع في السوقين المحلية والإقليمية، والمضاربة في السوق الدولية، وكلها أصبحت مشروطة بقيم وقوانين الليبرالية الجديدة.
وكان يمكن لهذا كله أن يستمر إلى ما بعد الثمانينيات ولكن الغزو الصدامي للكويت، وما تلاه، كشف أن "السياسي" لم يعد قادراً على تجاهل غياب حقله المحلي، وأن نجاحه في الخارج يؤهله للتفاوض مع نظام أنجبه على مكان ومكانة جديدين في الداخل. ولم يكن لهذا أن يحدث دون قناع "الديني" ولغته وخطابه. وتلك كانت سمة التسعينيات. وفي سياقها وقع الشرخ في علاقة النظام بالإخوان المسلمين، كما وُلدت القاعدة بوصفها معارضة محلية، وتشظى "الديني" بعد أكثر من انشقاق، وإعادة تموضع.
الخلاصة: اعتنقت الطبقة الوسطى الجديدة قناعات أيديولوجية مُحافظة تقوم على الاستثناء السعودي، وتتأقلم معه، بل وتتخذ من المصائر التراجيدية للجمهوريين، والقوميين، واليساريين العرب، دليلاً على مخاطر المجازفة بإعادة إنتاج نموذج الدولة الأمة على النمط الغربي.
وكان "السياسي" في نظرها، وما زال، يعني نشاطاً في الخارج، وتجاهل غياب أو مصادرة الحقل السياسي في الداخل.
هذه، على أي حال، هي السمة الأساسية للتيار الرئيس الذي لا يعارض النظام، بل يسعى للتفاوض على تحسين شروط العلاقة بما يمكنه من تلبية حاجات استهلاكية لم تعد بنية وهيكلية الدولة والمجتمع، والثقافة السائدة، قادرة على إشباعها.
وإذا شئنا تفسير الصراع بين "العلمانيين" و"الإسلاميين"، الذي يمثل العنوان الرئيس لسجال جناحين من الطبقة الوسطى، رغم ما يكتنف التعبيرين من غموض، فينبغي التفكير في أن التفاوض على تحسين شروط العلاقة يستدعي هوية جديدة جامعة. لذا، نشب الصراع على العناصر والمقوّمات. وبما أن "السياسي" وُلد بوصفه من تمثيلات "الديني" فمن غير الممكن خوض الصراع خارج لغة ومفردات الأخير وقناعه، خاصة وأن "العلمانية" من أكياس التدريب على الملاكمة الأيديولوجية من زمن الناصرية، والحرب الباردة، وأن "الإسلاميين" هي ما أنجب الزواج الوهابي الإخواني من دلالة محتملة "للسياسي".
والخلاصة، أيضاً: يختزل كل ما تقدّم ويُفسّر سيرة وصورة الخاشقجي. كان ابناً شرعياً وطبيعياً لطبقة وسطى جديدة، اعتنق قيمها وتصوّراتها، وقد كان إخوانياً على غرار الكثيرين من أبناء جيله، وربطته علاقة خاصة ببن لان، والواقع أن بداية عمله "الصحافي" كانت في أفغانستان، كما حاول التوسّط بين بن لادن والنظام بعد انشقاق المذكور في ظل تدهور علاقة السعوديين بالإخوان، بعد الغزو الصدامي للكويت، وتشظي "الديني" نفسه.
وقد اختار، في ظل تدهور العلاقة، البقاء في التيار الرئيس، وعاد عليه خياره بوظائف حكومية، ومناصب إعلامية، ومكّنه من نسج علاقات في أوساط السلالة الحاكمة. ولكن القانون الحاكم لصعود طبقته الاجتماعية حكم سلوكه المهني، أيضاً. "فالسياسي" محمولاً على ما تراكم من خبرات إخوانية يفرّغ طاقته في الخارج، بتأييد الأفغان، أو الفلسطينيين (مع تأنيبهم على خيارات قومية راديكالية، ويسارية خائبة) أو السوريين في ثورتهم على آل الأسد. وبالقدر نفسه، كان "السياسي" تقنياً وبلاغياً ومنزوع الدسم، بلا مضامين اجتماعية تعيد الاعتبار إلى قضايا الحرية والعدالة الاجتماعية.
ولكن مأساته الشخصية، كما مأساة الكثيرين من أقرانه، تمثلت في محاولة العثور على حيّز ما في حقل سياسي محلي، وكان المفتاح في حالته، كما في حالة الكثيرين، تسويغ البحث عن، والعثور على، حيز ما، التستر وراء هوية جامعة ودلاونية جديدة، تبرر له المسعى بوصفه قومياً سعودياً، حتى وإن اقتضى الأمر أن يكون بوقاً للنظام.
والمفارقة أن منعه من الكتابة (في الحياة اللندنية) ومن الظهور في الفضائيات، جاء بعد مبالغات وطنية وتحيّزات عنصرية، وعدائية، ضد مصر والمصريين، في ظل احتدام الجدل القضائي والسياسي في مصر بشأن جزيرتي تيران وصنافير. وقتها تدخل النظام للحيلولة دون توتير العلاقة مع مصر، لأن الخاشقجي كان محسوباً عليه، وضمنيا من الناطقين باسمه.
ويبدو أن تلك كانت بداية الشرخ الفعلي في العلاقة الشخصية بالنظام، أو بجناح منه. وما حدث بعد ذلك في "المنفى" الأميركي لا يحتاج إلى اجتهادات كثيرة. لم يتحوّل خاشقجي إلى معارض للنظام بالمعنى التقليدي للكلمة، على غرار معارضين حقيقيين في عواصم أوروبية مختلفة. والواقع أن التنكيل به، بالطريقة التي تكلّم عنها الأتراك، يُفسّر بما في قلوب قاتليه من حقد على مَنْ خان "العشرة" و"الخبز والملح" أكثر من حقدهم على مُعارض مُحتمل.
هذا لا ينفي التعاطف معه بالمعنى الشخصي، ولا ينفي إدانة الجريمة، ولكن لا أستطيع وضع سمير قصير، وجمال خاشقجي في خانة واحدة. كل ما في الأمر أن الهوية التي سعى وراء قناعها للبحث عن حيّز في حقل سياسي محلي، تعاني من عسر وتعسّر المخاض، وأن عملية تاريخية كهذه، وهي غير آمنة، لا يمكن أن تكون بلا ضحايا. وقد شاء القدر أن يكون من هؤلاء.