أزمة كبرى (2) : مؤشرات...حسين حجازي

السبت 27 أكتوبر 2018 03:51 م / بتوقيت القدس +2GMT



كأنما العالم في توحده النادر مروعاً ومصدوماً وشاعراً في الآن نفسه بالغضب والإدانة والاشمئزاز. كأن هذا العالم الذي بدا حقاً في زماننا هذا عبارة عن قرية صغيرة تحت تأثير الثورة المعلوماتية والإعلام، يعبر بصورة جماعية كما لو أنها لحظة من التاريخ القديم الذي تمتزج وقائعه وأحداثه الكبيرة بالأساطير عن خطيئته. ويبدي هذه اليقظة في ساعة من الحقيقة ندماً وتكفيراً عما اقترفه من غفو او نسيان.
ولكن من المنظور الرمزي الأخلاقي او التراجيدي العاطفي للازمة الى المقاربة الواقعية او السياسية لها، فإنها كأي أزمة كبرى هزت العالم واستطاعت ان تحفر لها خرقاً في الضمير والوجدان الكوني والتاريخي، فانها من الآن تحمل مؤشرها الى المستقبل المنظور وان هذا المؤشر او الاتجاه الجيوسياسي الشامل او الخارق لن يكون سوى إعادة تشكيل التوازنات والتحالفات الدولية، اقله في الإقليم الشرق أوسطي. 
وان هذا المؤشر هو ما يمكن الاستدلال عليه من تصريحات ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان، حين قال في اول مداخلة له قبل ايام «لقد عرفنا الآن من هم اصدقاؤنا ومن هم ألد أعدائنا» وانه بوجود والده العاهل السعودي الملك سلمان ووجوده شخصياً ولياً للعهد فإن أحداً لن يمكنه بعد الآن إحداث شرخ في العلاقة مع تركيا أردوغان .
ورأينا هنا في السبت قبل الماضي في أول مقاربة لنا للازمة وفي نهاية المقال، ان الخيار الوحيد الآن أمام المملكة السعودية ليس سوى إعادة المصالحة والتحالف مع القوتين الإقليميتين الكبيرتين في المنطقة أي مع تركيا وإيران. وذلك لكي يكون بمقدور هذه القوى الثلاث أي مع السعودية استعادة ملكية القرار والتوازن الإقليمي لردم هذه الشقوق والثغرات. باعتبار ان التكاملية الإقليمية هي الاستراتيجية التي تخرج هذا المشرق من لعبة الصراع عليه ولعبة الأمم، لئلا تظل قبلةَ المنطقة سياسياً واقتصادياً نحو الغرب.
وقد يكون حان الوقت للخروج من هذا الاشتباك المفتعل بين السنة والشيعة أي فض الاشتباك مع إيران او مع الجغرافيا والتاريخ، اذا كان الستار يسدل في هذه الأوقات على الازمة السورية ويتم الإعلان واضحا عن هزيمة إسرائيل واميركا في هذا الصراع على تقرير مصير سورية والشرق الاوسط، وانتصار الحلف الثلاثي الممثل بروسيا وتركيا وايران.
وتوجه ولي العهد محمد بن سلمان الى رجال الاعمال الروس في منتدى الاستثمار في السعودية لحثهم وتشجيعهم على الاستثمار في السعودية في لفتة سياسية واضحة، وذلك في مواجهة ما اعتبره الرجل انقلاب الغرب المفاجئ على شخصه. ولهذا السبب فقد يكون الوقت مبكراً لمعرفة المآل النهائي لهذه الأزمة، التي تتخذ شيئاً فشيئاً الطابع الشخصي أي تحييد الدولة والملك الأب والهجوم والانقلاب على الابن ولي العهد. 
وهو ما يبقي الأسئلة قائمة ان كانت الإيماءة نحو إمكانية او خيار إعادة المصالحة وترميم التحالفات الإقليمية مع قطر، لإعادة الاعتبار لدور مجلس التعاون الخليجي، ومع تركيا وإيران وحتى روسيا هي جزء من المناورة الدفاعية لولي العهد؟. ام ان شيئاً كبيراً قد حدث فعلياً، وهذا يتمثل جدياً بانكسار أهم قاعدة واقدمها من التحالفات في تاريخ المنطقة بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأميركية. وان انكسار هذه القاعدة التي كانت حتى الأمس تبدو متينة وراسخة فإنها قد تكون اهم متغير يحدث منذ الحرب الباردة. اذا كان لنا ان نفسر بهذا الاتجاه اتصال الملك سلمان بن عبد العزيز في هذا الوقت بالرئيس الروسي بوتين ودعوته لزيارة الرياض.
ولكن السؤال في ذروة هذه الأزمة التي لم تقذف بعد بكل شحناتها او مخرجاتها، هو حول تداعياتها المحتملة على الصراع الأقدم في المنطقة أي على الصراع الفلسطيني العربي مع إسرائيل. وفي هذا الصدد فإن المؤشر الأولي هو أن إسرائيل تبدو هي الطرف الأكثر خسارة في هذه الأزمة، اذا كان العالم والإعلام العالمي بوجه خاص سوف يكون بعد الآن اكثر حساسية ازاء عمليات الإعدام خارج القانون التي طالما نفذتها إسرائيل ولا زالت ضد الفلسطينيين، وبما في ذلك السجل الحافل والطويل لانتهاكات حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وعمليات القتل التي تنفذها إسرائيل حول العالم ضد المناضلين الفلسطينيين، كما الاستخدام المفرط للقوة ضد المتظاهرين المدنيين سلميا على الحدود بين غزة وإسرائيل او على الحواجز في الضفة. 
وقد يجدر الذكر في هذا السياق ان المخابرات المركزية الأميركية كانت قد اوقفت هذه العمليات من القتل والاغتيالات في سبعينات القرن الماضي مع تولي جورج بوش الأب مديرا لوكالة المخابرات الأميركية. بعد ان مارست هذه الإعدامات حول العالم ضد العديد من زعماء دول وشخصيات وطنية في افريقيا وآسيا واميركا اللاتينية من بينهم تشي جيفارا.
وقد يكون في احد تداعيات او نتائج هذه الازمة التي اصبحت مسألة رأي عام لم يسبق لها مثيل هي في مصلحة النضال الفلسطيني ضد الاحتلال، اذا كانت هذه الازمة قد اظهرت بما لا يدع مجالا للشك انتصار المعايير القيمية والاخلاقية ما فوق القوة المادية على القوة نفسها، في تحول يشي بانتصار المبادئ والحضارة والمدنية من جديد على غرور القوة وانحرافات الدولة. ولعل هذا المتغير هو ما يفسر قرار العاهل السعودي الملك سلمان في تأكيده على إعادة هيكلة جهاز المخابرات السعودي على قاعدة إعادة التصحيح او التصويب، وهو إشارة الى ان هذه الأزمة تفرض نهجاً وسلوكاً ونظرة جديدة في التعامل مع المعارضة وحرية التعبير.
هل هي لحظة انكشاف فارقة في المزاج العالمي الإنساني، ربما نرى انتقال عدواها في التأثير الجمعي على مستوى الوعي وحتى الضغط الدولي يطال أخيراً الأزمة الشرق أوسطية كما اصطلح على تسميتها، أي في الموقف من آخر احتلال باق في التاريخ يمثل عارا للبشرية وهو الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين ؟، وهو بالضرورة يستفز هذا الشعور اذا كان يمتزج في مرحلته الأخيرة بهذه النزعة من العنصرية والفاشية.
وواقع الحال انه تتبلور الآن ثلاثة مراكز في العالم لخلق هذا الاتجاه الضاغط، فالى جانب الولايات المتحدة التي كانت تمثل منفردة هذا الضغط او القرار العالمي ثمة اليوم الاتحاد الأوروبي ورسيا. وقد نلحظ بعض المؤشرات التي برزت ربما على هامش هذه الازمة من دون مصادفة، فاذا كان صحيحاً بل ولافتاً على نحو أثار الدهشة، ما يسمى في غضون ازمة اغتيال جمال خاشقجي باستراتيجية التسريبات قطرة قطرة التي اتبعتها تركيا لتصعيد الأزمة وتدويلها وتحويلها تاليا الى قضية رأي عام دولي، فهل يمكن النظر الى الأقوال المسربة أخيراً للإعلام عن اللقاء بين الرئيس الفرنسي امانويل ماكرون مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة حول حل القضية الفلسطينية، وتقارب وجهتي نظر الرجلين عن العوائق التي يضعها بنيامين نتنياهو في هذا الإطار ؟. 
ولاحقاً القول إن فرنسا سوف تعرض الخطة الأوروبية البديلة للسلام اذا لم يعرض ترامب خطته او فشل هذا الأخير. الى جانب سلسلة الأقوال المسربة من الإدارة الأميركية التي تتحدث عن القدس كعاصمة للدولتين والربط الجغرافي بين الضفة وغزة، وكل ذلك في سياق واحد هو الرغبة في إرضاء الفلسطينيين.
بل لا يمكن اعتبار تردد إسرائيل في اقتحام وهدم قرية الخان الأحمر الا كإشارة لا تخرج عن هذا السياق الذي يتمثل بهبوب هذه الرياح الدولية الجديدة، ويكتسب اليوم زخماً مع الأزمة الدولية حول مقتل جمال خاشقجي. وقد لا يكون من الخطأ النظر كذلك الى الدور المصري الضاغط بقوة لم يسبق لها مثيل، في التحرك بين غزة وإسرائيل ورام الله لإنهاء او تخفيف الحصار عن غزة وتحقيق التهدئة والمصالحة بين فتح وحماس، كإشارة لا يمكن تخطئتها بالتنسيق المصري مع الاتجاه الدولي تمهيداً لحل الصراع، والذي استبقه بنيامين نتنياهو أي هذا الاتجاه بتصريحاته الأخيرة التي تعكس قلقاً وتخوفاً واضحاً، من ان إسرائيل سوف تواصل المسؤولية عن الأمن غرب نهر الأردن، ولكن لننتظر المستقبل القريب.