في صيف 2014 تلقيت رسالة بالإيميل من جمال خاشقجي، المدير العام لقناة العرب، التي كان يجري الإعداد لإطلاقها في وقت لاحق من ذلك العام. كنت في لندن، وكانت الرسالة عبارة عن عرض للعمل مع القناة. بعد أسبوع كنت في البحرين، مقر القناة، وسألت عن مكتب جمال. كان مكتبه لا يوحي بأنه المدير العام، بل كان يوحي بأنه رئيس تحرير، حيث كانت الصحف وغيرها من المطبوعات تتكدس على مكتبه، وبابه مفتوح بلا سكرتارية ولا أذنة. كان لقاءً دافئاً، سألت فيه جمال: هل ستكون القناة سعودية ذات بعد عربي، أم عربية ذات بعد سعودي؟ فاجأه السؤال، ولكنه أجاب باختصار: نحن قناة سعودية، لكن سنهتم بالشأن العربي مع تركيز خاص على موضوع الاقتصاد. حدثني عن كتابه الذي نشره للتو بعنوان: احتلال السوق السعودي، وكان مهتماً بتحويل محتواه إلى مادة متلفزة بطريقة ما. في نهاية اللقاء طلبت منه أن أستعير صحيفة الحياة التي كانت على مكتبه، فتناولها وأعطانيها وهو يقول مبتسماً: بإمكانك المرور على مكتبي كل يوم لتأخذ ما تريد من الصحف.
بعد ثلاثة أشهر كانت المحطة التلفزيونية تتشكل وتكتمل، وكان درة برامجها المخططة هو برنامج يختص بالشأن السعودي، واسمه من الرياض ويبث من العاصمة السعودية الرياض. واختارني جمال لقيادة هذا البرنامج، وأرسلني لهذا الغرض إلى الرياض، لكي أشرف على كل ما يتعلق بالبرنامج من أستوديو ومحتوى وتدريب صحافيين ومتابعة إعداد النسخ التجريبية للبرنامج. خلال تلك الفترة زارنا جمال في مقر الشركة المزودة للخدمة، وكان حريصاً على الإستماع لتقييمي لكل ما يتعلق بالبرنامج، وطمأنني على قرب إنطلاق بث القناة. مضت خمسة أسابيع تلقيت بعدها خبر انتقال زوجتي التي كانت في فلسطين إلى جوار ربها. في تلك اللحظة القاتمة السواد، كان جمال على الطرف الآخر للهاتف يواسيني ويقدم العزاء، وأبلغني بأنه شخصياً وكل مقدرات القناة متاحة لي إذا احتجتها في تلك المحنة. منحني إجازة مفتوحة، وتذاكر سفر وكثيراً من عبارات المواساة. عند عودتي للعمل بعد أسابيع قليلة، كان في انتظاري على باب مكتبه، احتضنني وكرر مواساته. إنطلقت القناة في فبراير 2015 وأغلقت في نفس اليوم وتلا ذلك بوقت قصير تغييرات في السعودية حين تولى الملك سلمان بعد رحيل الملك عبدالله، والتغييرات التي طرأت داخل العائلة المالكة والتي انزاح الستار فيها عن تعزيز محمد بن سلمان سلطاته وصلاحياته وتوثيق علاقاته مع أبوظبي والقاهرة، وبدء الحملة السياسية والإعلامية ضد قطر والتي تكللت بحصارها المستمر حتى الآن. لم تكن البيئة الإعلامية في السعودية أقل اضطراباً، وكانت انعكاساً للبيئة السياسية وبدأت الصحف السعودية تزخر بمقالات الرأي التي تهاجم قطر وتمجد بن سلمان، وتمهد لعلاقات مفتوحة وعلنية مع إسرائيل واصفة ثورات الربيع العربي بأنها أعمال تخريب تهدف لزعزعة استقرار الدول العربية. لم تكن هذه هي البيئة الإعلامية التي يجيد جمال العيش فيها أو التعايش معها. وكانت المؤسسات الإعلامية التي تهتم بالرأي الآخر تبحث عن صوت سعودي يسلط الضوء على الجانب الآخر من الحياة في المملكة، فلم يكن أمامها إلا جمال خاشقجي، الذي ما لبث أن منع من الحديث لوسائل الإعلام وحتى من استخدام الإعلام الاجتماعي وحظر عليه التغريد على تويتر. وبعد أن استشعر جمال أن الخناق يضيق على الصحفيين بحيث لا يسمح لهم حتى بالحياد، غادر بلاده ليستقر في الولايات المتحدة في منفى اختياري. في الولايات المتحدة انتظم في الكتابة عما يدور في السعودية لصحيفة الواشنطن بوست، وكان متحدثاً نشطاً في حلقات النقاش وورش العمل التي تنظمها مراكز الأبحاث المختلفة. كان خلال كل ذلك يرفض بشدة أن يوصف بالمعارض أو المنشق. وكان في نفس الوقت يحرص على عدم الإساءة المباشرة لحكام السعودية الجدد. وحافظ على نقده لسلوكيات وتصرفات تصدر عن ولي العهد الجديد من شأنها الإساءة للمملكة ومكانتها ودورها في المنطقة والعالم. التقيته في واشنطن قبل أشهر معدودات على وجبة غداء دعانا إليها صديق صحفي مشترك. دار حديث سريع عن نصائح وجهها جمال للأمير الوليد بن طلال بخصوص إعادة إطلاق القناة من قطر وعدم تجاوبه مع ذلك لحسابات تتعلق بالوضع السعودي الداخلي. ومن ثم انتقلنا للحديث عن الوضع القائم. كرر جمال قوله أن البيئة داخل السعودية لا تسمح للصحفي حتى أن يختار الصمت، فالنظام يريد من الصحفي أن يكذب ويزور الحقائق ويسيء إلى الجيران والحلفاء ويروج لسياسات حمقاء يقوم بتنفيذها ولي العهد بن سلمان. هذا ما قاله جمال على نحو تقريبي. طرحت عليه سؤالاً مباشراً: لماذا نلاحظ أن لدى الصحفيين السعوديين العلمانيين جرأة كبيرة على الإساءة للإسلام وإلصاق شبهات التخلف والتطرف والإرهاب به؟ فأجاب: لقد عمل النظام السعودي عبر عشرات السنين على تقديم نموذج مشوه وسيء وكريه للدين لا يتوافق مع الطبيعة البشرية ولا مع شروط العصر، في هذه البيئة ترعرع هؤلاء وهم يرون العالم بشكل مختلف من خلال ثورة التواصل والمعلومات، فصار الدين بنموذجه السعودي جداراً لا بد من إسقاطه كسبيل وحيد للإنطلاق إلى فضاء الحياة.
ختم جمال ذلك اللقاء برسالة على واتس أب قال لي فيها: سعدت بلقائك. أرجو أن تنقل تحياتي لبقية الزملاء إن التقيتهم. من لحظة اختفائه، وأنا أقرأ رسالته تلك في كل يوم عدداً لا حصر له من المرات.