نوع من السعادة يخيفني..زياد خدّاش

الثلاثاء 09 أكتوبر 2018 02:06 م / بتوقيت القدس +2GMT



- أستاذ مرحبا أنا فلانة، عمري ١٩ عاماً حضرت من الشمال إليك خصيصا، مع أمي وهي تنتظرني الآن في السيارة، عندي رواية (بتجنن)، أريد دار نشر تقترحها لي وأنا مستعدة للدفع.
كنت أجلس في مقهى، رمت البنت الصغيرة مسودة الرواية على الطاولة أمامي، فيما يشبه اعتقاداً منها أنها ترمي عليّ مكافأة، وقع فنجان قهوتي عن الطاولة، صاحت البنت: يا الله أستاذ كبة القهوة خير وهذا الخير أمامك، نسيت البنت أن تعتذر. ابتسمتُ أنا، طلبتُ فنجاناً ثانياً.
- كيف عرفتِ أن الرواية (تجنن)؟!
- أمي قالت لي ذلك، فهي قارئة جداً، آخر رواية قرأتها كانت (أنثى عبرية في قلبي) وقالت  لي أمي أيضا: إنك تكتبين أفضل من الذين لديهم روايات منشورة ..
وفيما بعد عرفت أن أمي تريدني أن أنشر رواية حتى تغيظ جارتها التي نشرت ابنتها رواية ووقعتها في مصر. وصديقي الكاتب المشهور قال لي: إن محمود درويش لو قرأ روايتك لأحبها جداً، أما معلمتي وهي صديقة أمي فقد اتصلت بصديقتها المذيعة في إذاعة (....) وعملوا معي مقابلة وقالت لي المذيعة إنها استمتعت بالرواية رغم أنها لم تقرأها ولكنها تحس من عيوني الذكية أنها مذهلة .. 
- يا صغيرتي ما هي الروايات التي قرأتها، ممكن تحكيلي بعضها؟ 
- كل روايات أيمن العتوم وأشعار نزار قباني، وآخر روايتين لأحمد خالد توفيق، وروايات غادة السمان.
- وما هي التجارب الحياتية التي مررت بها يا صغيرتي؟ احكي لي بعضاً منها ..
- مررت بتجارب كثيرة يا أستاذ، تفوقت في امتحان التوجيهي تفوقاً ساحقاً أغاظ زميلاتي، وحاربنني بعدها أشهراً طويلة؛ هذه تجربة مريرة لا أنساها!
وهناك تجربة أخرى مررت بها، رأيت بعيني سيارة تدهس أخي الصغير، ولكنها كانت إصابة طفيفة الحمد لله ..
أما التجربة الكبرى التي مازلت أتعرض لها، هي فض الاشتباك الدائم بين أمي وجارتها، فهما دائماً متقاتلتان، متنافستان، حاقدتان على بعضهما البعض .. 
- وما هي الأفلام التي شاهدتها يا صغيرتي ؟
- إنني لا أشاهد الأفلام، فالأفلام العربية سخيفة، والأوروبية فاسقة، أحب أن ألعب ألعاب الفيديو على الانترنت مع صديقاتي، منها ألعاب باربي وألعاب الرياضة وألعاب الأطفال بشكل عام.
-هل شاهدتِ يوماً مسرحية ما في مسرح ؟
- شاهدت مرةً مسرحية وخرجت من نصفها مع أهلي فقد كانت مملة جداً ومعقدة وغريبة، ولم نفهم منها شيئاً.
يا صغيرتي يجب أن تقرئي كثيراً في كل شيء، يجب أن تشاهدي أفلاماً ومسرحيات كثيرة، يجب أن تسافري كثيراً وتسقطي عن دراجتك وتغضبي كثيراً من أمك، وعلى أمك، أن تتمنى لو أنها لم تنجبك، عليك أن تتقاتلي مع المعلمة وأن لا تصدقي المذيعات وعليك أن تحزني كثيراً وتموتي كثيراً وتفقدي أصحاباً كثيرين وتعشقي حتى تتكسري، ثم بعدها تسألين نفسك: هل استطيع التنفس خارج الكتابة؟ إذا كان الجواب لا، اكتبي شيئاً ما حتى تحافظي على صحتك.
- لا أستطيع السفر، فأنا أعشق فلسطين، أما الأفلام والمسرحيات فأنا أخافها فهي تدعو للخروج  عن المألوف وأنا أكره الخروج عن المألوف .. لأن الخروج عن المألوف يعني الخروج عن الدين، يعني الخروج عن الأخلاق، يعني الخروج عن رضا أمي عني، وهذا ما لا ترضاه لي أمي التي هي قدوتي ولا أرضاه أنا نفسي.
وتطلب مني أن أحزن كثيراً؟! سامحك الله، هل يطلب أحد من شخص أن يتقاتل مع أمه؟!  وتطلب مني أن أموت. هل أنت مجنون؟ واضح أنك غريب الأطوار، كما قالوا لي، شكراً أستاذ، السلام عليكم .. لقد أضعت وقتي لقد أضعت وقتي .. 
غادرت البنت المقهى، طلبت فنجاناً آخر، شربته، عدت إلى عملي. فيما بعد وصلتني رسالة على جوالي من أم البنت: قبل أن تقيّم كتابات ابنتي، مشط شعرك يا صاحب الكنفوش، رأيتك من السيارة.
بعد شهرين فقط رأيت هذه البنت الصغيرة محاطة بأهلها وأصدقائها وناشرها وحشد من كُتاب  مدينة ما عربية، توقع كتاباً وتبتسم كثيراً.
كنت أجلس في المقهى ذاته حين رأيت هذا النوع المرعب من السعادة على وجهها ووجوه الحضور.
سقط فنجان القهوة من يدي، لم أطلب فنجاناً ثانياً.
خرجت.