هويتان وأزمتان (1-2)...حسن خضر

الثلاثاء 09 أكتوبر 2018 02:04 م / بتوقيت القدس +2GMT
هويتان وأزمتان (1-2)...حسن خضر



وقع حدثان كبيران، في الأيام القليلة الماضية، وكلاهما يستحق عناية خاصة. أعني فوز العراقية اليزيدية نادية مراد بجائزة نوبل للسلام، واختفاء الصحافي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول. ولعل وصفهما بالكبيرين يستمد جدارته، وجدواه، من حقيقة أن لكليهما تداعيات بعيدة المدى تتجاوز مصير الشخص نفسه. ولكن، هل ثمة ما يبرر الجمع بين الحدثين في معالجة واحدة، وإذا كان الأمر كذلك، فما الذي يسوّغ أمراً كهذا؟
وبقدر ما أرى، فإن ما يجمع بينهما يتموضع في سياق الكلام عن الهوية القومية الجامعة (لا أعني القومية العربية، بل قومية الدولة الأمة لأناس يعيشون ضمن حدود الإقليم الجغرافي، وفي ظل السيادة السياسية لهذه الدولة أو تلك على إقليمها). وفي سياق كهذا، يمكن التعليق على التجليات المأساوية لهويتين مأزومتين أولاهما في طور التشظي والانهيار، والثانية في طور المخاض العسير، والولادة المُتعسّرة.
ما معنى هذا؟ فلنفكر في نادية مراد، العراقية التي لن يتمكن أحد من الكلام عنها، أو التفكير فيها، دون إلحاق صفة اليزيدية باسمها. حقها في هذا مكفول. فلن يتمكن أحد دون هذه الصفة، وما تنطوي عليه من دلالات الغيرية، من فهم أو تفسير ما أصابها قبل أربع سنوات عندما احتل الدواعش قريتها، في شمال العراق، وقتلوا أمها وأخوتها، مع المئات من سكّان القرية، وأخذوها سبيّة مع المئات من البنات والنساء.
وقد عقّبت في أواخر العام الماضي على كتاب مراد، الذي نشرته بعنوان "آخر البنات". ولا أجد ما يبرر العودة إلى تفاصيل كثيرة وردت فيه، بل أكتفي بصرخة "يا وحدنا"، التي يتردد صداها في سطور الكتاب، وبينها، وتحتها، وفوقها. كان اليزيديون في لحظة الروع، وبين براثن الوحش الداعشي، وحدهم، لأنهم ليسوا مسلمين، ولا من "أهل الكتاب"، ولم يهب أحد لنجدتهم حتى من جيرانهم، الذين عاشوا وتعايشوا معهم، على مدار قرون، بل وشارك بعض الجيران في السبي، والقتل، والنهب.
كان المسيحيون، والشيعة، والكرد، وموظفو السلطة المركزية، "وحدهم، أيضاً" في المناطق التي سقطت في قبضة الوحش الداعشي، وتعرضوا للقتل، والسلب، والتهجير، وشارك في هذا وذاك، أو غض الطرف عنه، خوفاً، ربماً، وتشفياً، ربما، واستعادة لمكبوت قديم، مَنْ كانوا قبل قليل جيراناً لهم. والخلاصة: لم يكن لهذا، وذاك، أن يحدث، وبالطريقة التي حدث بها، لولا تصدّع وتشظي الهوية القومية العراقية الجامعة، المتعالية على هويات تنتمي إلى زمن ما قبل الدولة الأمة الحديثة.
 فما أن انهارت الهوية الجامعة حتى تحوّل الكل، في ما يشبه الكابوس القيامي، إلى عدو للكل، وأصبح ما كان إقليماً سياسياً وسيادياً في يوم ما مجرّد غابة لوحوش الطوائف والمذاهب. وكما جرت العادة أصبحت الأقليات الدينية والمذهبية والقومية ضحايا مثالية، وكما جرت العادة، أيضاً، تصدّرت النساء قائمة الضحايا بامتياز. لماذا، وكيف؟ هذا أمر يطول شرحه. المهم، أن الدلالة الثقافية، والاجتماعية، والسياسية، لمأساة نادية مراد تتجلى على خلفية كهذه في سياق أبعد وأعقد وأعرض. 
ولنتأمل، الآن، حدثاً يمكن تحويله إلى وسيلة إيضاح عن ولادة عسيرة ومتعسّرة لهوية قومية جامعة: لم تنشأ في إقليم الدولة السعودية، كما نعرفه ونُعرّف حدوده، في الوقت الحاضر، دولة مركزية جامعة على مدار قرون طويلة. والواقع أن التحوّلات التي طرأت على اسم الدولة كانت انعكاساً لتحوّلات طرأت على إقليمها، أيضاً. مِنْ إمارة في الرياض في أوائل القرن الماضي، إلى سلطنة في نجد، إلى مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها، وصولاً إلى المملكة العربية السعودية في العام 1932.
ولا يمكن الكلام، في الواقع، عن تجليات لبلورة هوية قومية جامعة تقوم على، وتُستمد، من الإقليم الجغرافي، والسيادة السياسية، قبل ثمانينيات القرن الماضي. مر قرابة نصف قرن على الأقل قبل ظهور تجليات يُعتد بها. فالتمركزات القبلية، وضعف التمركز الحضري، والبنية التحتية، والتفاوت بين مناطق ذات خصوصيات ثقافية، واجتماعية، ودينية، وذاكرات تاريخية متباينة، يعيق مسألة الصهر والانصهار القوميين.
تصدر الهوية القومية الجامعة عن، وتتجلى في، إنشاء الجماعة المُتخيّلة. ومن نافلة القول التذكير بحقائق من نوع أن الهوية الدينية قد تمثل عنصراً في عملية إنشاء جماعات مُتخيّلة، لكنها لا تكفي، ولا يمكن أن تنوب عن مكوّنات كالذاكرة التاريخية، والميراث الثقافي العام، ولا يمكن لعملية الإنشاء أن تحدث، أيضاً، دون وجود طبقة اجتماعية وسطى. والواقع، أيضاً، أن في مجرّد وجود، أو تبلور طبقة اجتماعية وسطى، ما يطرح قضايا يصعب التغاضي عنها، أو تأجيلها إلى أمد غير معلوم، كالعقد الاجتماعي، ومصادر الشرعية، وهوية النظام السياسي، وطريقة إدارة وتوزيع الثروة.
ينطوي كل ما تقدّم على تداعيات تمس بنية وهوية وخصوصية النسق السياسي السعودي. وقد فرضت عليه الثروة النفطية الهائلة منذ أواسط سبعينيات القرن الماضي ضرورات وإكراهات الاستثمار والتأقلم، ونجمت في، وعن، الحالتين، تحوّلات اقتصادية واجتماعية وثقافية لا يملك أحد إمكانية السيطرة على تداعياتها في المدى البعيد. وبهذا المعنى، انفتحت نافذة ذهبية، وغير مسبوقة في النسق السياسي والاجتماعي السعودي، لأشخاص كالخاشقجي وُلدوا في عقد الخمسينيات، وتصدّروا المشهد الثقافي والأكاديمي والإعلامي المحلي منذ نهاية الثمانينيات.
 كان ثمة مدارس وجامعات، وشركات، ومؤسسات، وبيروقراطية دولة، ومناصب رفعيه، ومرتبات عالية، ومكانة اجتماعية مرموقة، في الانتظار: للحد من الموظفين والإداريين الأجانب من ناحية، وانجاب وتدريب إداريين ناجحين، ورعايا صالحين من ناحية ثانية. في الحالتين، لا يحتمل هذا أسماً غير توليد وتمكين طبقة وسطى جديدة. في أسبوع قادم نكمل.