البعض الأميركي يقول إن إدارة الرئيس الأميركي ترامب هي الأكثر انحيازاً لإسرائيل في التاريخ الحديث.
هذا ما قاله مثلاً أرون ديفيد ميلر، نائب المبعوث الخاص للشرق الأوسط في عهد الرئيس كلينتون.
لكننا نحن الفلسطينيين لم نعرف إدارة أميركية لم تكن منحازة تماماً لإسرائيل، سواء أكانت هذه الإدارة جمهورية أم ديمقراطية.
من التاريخ القريب نشير إلى أن الرئيس كارتر، الرجل الذي يكرس جزءا من حياته اليوم لدعم القضية الفلسطينية، كان الرئيس الأميركي الذي «أقنع» السادات بالتخلي عن الفلسطينيين مقابل صفقة «السلام» مع إسرائيل.
رونالد ريغان، الرئيس الأميركي الذي تلاه، هو من أعطى الضوء الأخضر لرئيس وزراء إسرائيل، مناحيم بيغن، لاحتلال وتدمير بيروت بهدف إخراج منظمة التحرير منها.
بوش الأب، هو من أذعن للمطالب الإسرائيلية بضم الوفد الفلسطيني إلى الأردني في مفاوضات مدريد، وهو أيضاً من قبل بطلب إسرائيل بأن تكون المفاوضات ثنائية، بين كل دولة عربية وإسرائيل على حدة، بدلاً من أن تكون مفاوضات عربية ـ إسرائيلية شاملة.
بل كلنتون، الرئيس الأميركي الذي أظهر الكثير من الاهتمام بالفلسطينيين واستقبل الراحل عرفات في البيت الأبيض ست عشرة مرة خلال ولايته، كان السباق لتحميل الفلسطينيين مسؤولية فشل مفاوضات كامب ديفيد رغم علمه أن ذلك تجنٍ على الحقيقة.
بوش الابن، هو من أعطى شارون الضوء الأخضر لتدمير مقر الرئيس عرفات في رام الله وهو من سعى لتغييره استجابة لطلب إسرائيل، وهو أيضاً صاحب أكذوبة أن ما يمنع الفلسطينيين من الحصول على دولة خاصه بهم هو غياب مؤسسات ديمقراطية لديهم.
أكذوبة تحولت إلى سياسة دولية في التعامل مع الفلسطينيين منذ العام 2004 تم خلالها التغاضي بالمطلق عن جرائم الاحتلال الإسرائيلي.
في عهد الرئيس أوباما تم رفع قيمة المساعدات الأميركية لإسرائيل من ثلاثة إلى أربعة مليارات دولار سنويا، وفي عصره حصلت إسرائيل على أكبر تعاون عسكري بينها وبين الولايات المتحدة.
أوباما، الرئيس الأكثر فهماً وإدراكاً لتاريخ الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي بحكم موقعه السابق كمحاضر ومدافع في مجال حقوق الإنسان في جامعة شيكاغو، وبحكم علاقة زمالة جمعته بفلسطينيين حاضروا في نفس الجامعة، ورغم كراهية نتنياهو له وتحريضه عليه في الكونغرس الأميركي، إلا أنه كان شديد الحرص على عدم إغضاب إسرائيل وكان يكرر بمناسبة أو دونها التزام إدارته الذي لا يقبل الشك بالحفاظ على التفوق العسكري الإسرائيلي على البلدان العربية مجتمعة.
لا، لا تقولوا إن إدارة ترامب هي الأكثر انحيازاً لإسرائيل في التاريخ الأميركي.
جميع الإدارات الأميركية كانت «أكثر» انحيازاً لإسرائيل، وجميعها لم يجرؤ على مخالفتها علناً رغم أن بعض رؤساء وأركان هذه الإدارات كانوا كارهين للاجتماع ببعض رؤساء وزراء إسرائيل.
جيمس بيكر مثلاً وزير الخارجية الأميركي في عهد بوش الأب كان يكره الجلوس منفرداً مع اسحاق شامير، وكلينتون لم يكن يرغب بالجلوس مع نتنياهو.
إدارة ترامب ضمن هذا السياق مختلفة، ليس بسبب انحيازها «الشديد» لإسرائيل، فهذا ما فعلته جميع الإدارات السابقة، ولكن بسبب عدائها وكراهيتها الشديدة للفلسطينيين. هذا فقط ما يميزها.
جميع الإدارات الأميركية السابقة تركت هامشا يُمكنها من التواصل مع الفلسطينيين.
جميعها قال إن القدس الشرقية محتلة منذ العام ١٩٦٧ وإن «مصيرها» خاضع للمفاوضات. جميعها اعترف بأن اللاجئين الفلسطينيين مكون أساسي في قضيتهم لا ينتهي الصراع مع إسرائيل دون تسوية «ما» لهذا المكون، وجميعها أعلن، البعض منهم على استحياء، أن الاستيطان في الأراضي المحتلة غير شرعي و»عقبة» في طريق السلام.
هذا ترك للفلسطينيين القليل من الأمل بأن الولايات المتحدة يمكنها أن تكون وسيطاً، حتى وإن كانت منحازه لإسرائيل، لتسوية الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
تصوير إدارة ترامب على أنها الإدارة الأكثر انحيازاً لإسرائيل يُبقيها في موقع «المنحاز» لكنها فعلياً خرجت من هذا الموقع إلى موقع العداء للفلسطينيين وإلى موقع الشريك لإسرائيل في جرائمها.
الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل أعقبه قطع المساعدات عن «الأونروا» وإغلاق بعثة منظمة التحرير في واشنطن، ومن ثم قطع المساعدات عن المستشفيات الفلسطينية.
هذا ليس انحيازاً ولكنه عداء وكره للفلسطينيين وعدوان عليهم وعلى حقوقهم.
العرب والفلسطينيون تسامحوا مع «الانحياز»، فهل يتسامحون مع «العدوان» عليهم أيضاً؟
عندما أعلن ترامب اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل، خرجت السيدة نيكي هالي، مندوبة أميركا في الأمم المتحدة وقالت إن «السماء لن تنطبق على الأرض بعد هذا الاعتراف».
بعد مضي بضعة أسابيع على الاعتراف قالت: ألم أقل لكم إن السماء لن تنطبق على الأرض!
السيدة هالي محقه بالطبع!
لو كان العرب عرباً، لأغلقوا السفارات والقواعد العسكرية الأميركية في بلدانهم.
لو كان العرب عرباً، لرفضوا استقبال مبعوثي إدارة ترامب في بلدانهم.
لو كان العرب عرباً، لسحبوا استثماراتهم من أميركا وقطعوا علاقاتهم التجارية معها.
لو كان العرب عرباً، لأوقفوا حجيجهم إلى البيت الأبيض.
لكن ماذا عسانا نقول أكثر من ترديد ما قاله الراحل الكبير محمود درويش: عرب وباعوا روحهم، عرب وضاعوا.