سيرة في المكان (3) .. الصف الأول..حسين حجازي

السبت 08 سبتمبر 2018 12:54 م / بتوقيت القدس +2GMT



يرمز الانتقال في الحياة الشخصية إلى الصف الأول إلى هذه اللحظة الحاسمة التي تظل أبد العمر تثير الانفعال، ونحتفظ بذكراها التي لا تنسى. إذا كانت هي تلك العتبة في هذه المسيرة أو السيرورة الذاتية التي تشير بل تؤكد انتقالنا أو تحولنا من الحياة الأولى الصغيرة، أي من الوحدة الأساسية أو النواة البدائية التي تمثلها العائلة أو الأسرة والبيت والحي، إلى الحياة الكبرى الحياة الواسعة بمعناها الذي سنبدأ في التعرف عليه منذ الآن. هو ما يعادل بصورة رمزية ربما ذاك الانتقال التراجيدي الذي مرت به البشرية أو الجنس البشري عموماً، في الانتقال من مرحلة ما قبل التاريخ التي لا نعرف عنها الشيء الكثير إلى بداية عصر التاريخ المكتوب والمدون. 
وكأن التاريخ كما هذا الانتقال العاصف في الحياة الفردية إنما يتحدد بملازمة امتلاك القدرة على القراءة والكتابة، وبداية التوازن بين جزئي العقل والمعرفة بين الوعي والإدراك والخفية اللاواعية بين العقل التحليلي، وأكاد أقول الرياضي أو المجرد الخالص والعقل الكلي الباطني.
وقد أكتب اليوم وأعود إلى ذكرى الصف الأول أو إلى هذا الانتقال في التاريخ الشخصي، تحت تأثير هذا الانتقال في هذه الأيام من أوائل شهر أيلول، بذاك الانفعال الذي رافق هذا الحدث بدخول حفيدتي هدلاء أول مرة الصف الأول، واحتفاء في هذه المناسبة بانتقالهم جميعاً تلاميذ الأول الابتدائي إلى هذه المرحلة، حاملي مشكاة النور.
ولكن ربما بنفس القدر من الانفعال لأنه قد حان الوقت لإعادة استحضار ذات اللحظة الشخصية، من خلف أو وراء جدران الذاكرة الدفينة أو الحنين إلى ماضي البدايات. إذا كانت الحقيقية الوحيدة والخالدة بل الحقيقة الصلبة هي أن الماضي لا يموت مهما تقادم الزمن أو العمر، الذي يظل مثل شبح لا يمكن مقاومته أو قهره، لا يمل من مطاردتنا ويظل في حالة من التمدد، ولا يتوقف إلا عندما تنتهي الحياة نفسها.
رددنا بتفاؤل مرح يعكس شعورنا الأول في استقبال الحياة الجديدة التي انتقلنا إليها نحن الأولاد في سن السادسة، ما تبدو الأغنية أو الأهزوجة المرتجلة التي تتغنى بالدرجات أو الصفوف الستة التي سنبدأ الصعود على سلمها وصولاً حتى بلوغ نهاية المرحلة الأولى أي المرحلة الابتدائية. وهكذا «الصف الأول كعك مدور والثاني تفاح شامي والثالث سكر نابت... إلى آخره». 
وبدت هذه الاستعارات الجميلة من الكعك الذي يرتبط بالعيد والتفاح والسكر، وكأنها في مهاد هذه العذوبة الساحرة من اكتشاف باكورة الحياة والأشياء الجديدة لأول مرة، وكأنها من منظار اليوم تحاكي أو تشبه إيقاع ضوء الشمس الغامر على الجدران النظيفة ذات اللون الأصفر، والنوافذ والبوابات الخشبية التي تميز صفوف المدرسة ذات السقوف القرميدية الناعمة. 
أو لعلها كانت تشبه الرائحة المميزة لكتاب القراءة العربية والكتب الأخرى ذات الطبعة الجديدة لمنهاج الصف الجديد، أو صورة الرسوم الجميلة بألوانها الزاهية التي تجسد قصة «عادل وسعاد» تلميذيّ الصف الأول في حبهما للمدرسة والحديقة والورد الأبيض والأصفر والأحمر. الورد نفسه متعدد الأشكال والألوان الذي يحيط بفناء المدرسة، ويتوسط صفوفها الإثني عشر.
واليوم بعد سبع وخمسين عاماً على هذه الذكرى لنذرف الدمع سلاماً على الصف الأول (أ)، والمدرسة التي لم يبق من أثارها إلا اسمها، المدرسة التي كانت تسمى «العتيقة» لأنها ربما من أوائل المدارس التي أنشأتها وكالة الغوث «الأونروا» على الطرف الشرقي من المخيم، المدرسة التي كانت تسمى في السابق ولا زالت ذكور الشاطئ الابتدائية (أ).
ثلاثة صفوف متلاصقة على سطر واحد كوحدة مستقلة إلى الجهة الشرقية قبالة نظرك مباشرة وأنت تدخل من بوابة المدرسة، وثلاثة صفوف قبالتها إلى الغرب بصورة موازية سوف تنتقل إليها تباعاً من الصف الرابع إلى الخامس وأخيراً السادس، أما إلى الجهة الشمالية فهي صفوف الثاني والثالث معاً، ثلاثة ثلاثة لكل منها.
ولا زلت أذكر طابور الصباح، استرح استعد والنشيد اليومي «إننا عائدون»، ومدير المدرسة سعيد الدجاني بشعر رأسه الكثيف وشاربه الذي بدأ يغزوه الشيب، وملامح وجهه التي توحي دوماً بالجدية والتجهم. وأسماء الأساتذة المعلمين لشخوصهم وهيئتهم، الأستاذ محمود عويضة بنظارته الطبية وياسين قفة بعصاه، ثم هذا هو الأستاذ وليد فرح أستاذ الموسيقى قادما بسيارته الشيفروليت الأميركية، والتي ربما لم يكن لها مثيل في غزة. 
وكان العصر هو زمن الرجال والزعماء الكاريزماتيين ونادري هذا الارتقاء في وقت واحد، جون كيندي الشاب الوسيم والشهواني واللعوب رئيس الولايات المتحدة، وجمال عبد الناصر الزعيم العربي الخالد أبو العروبة والقومية، وخروتشوف الفلاح الروسي على رأس الاتحاد السوفياتي المهاب، وشارل ديغول رئيس فرنسا التاريخي. وتحت تأثير كوكب المشتري أو الإله جوبتير كما يسميه الرومان، أو زيوس الذي اعتبره اليونان كبير الآلهة. كان هذا أيضاً هو زمن نجوم السينما والغناء تحت تأثير هذا الإشعاع، مارلين مونرو ملكة الإغراء في هوليود، وشكري سرحان فتى الشاشة العربية بخصلة شعره الساحرة المدلاة على الجبين، وسعاد حسني وعبد الحليم حافظ الذي لا يزال يرمز إلى ذكرى هذا الزمن الجميل.
ولكنه قد يكون حان الوقت أو واجب الوقت لتقديم الشكر إلى الأستاذ والمعلم الأول الذي علمني القراءة والكتابة. وهكذا في وقت من العام 1996 قبيل غروب الشمس بقليل سوف أصطحب معي ابن أخي أسامة للذهاب إلى بيت الأستاذ أحمد عبد الغني.
طرقنا على باب البيت الذي بدا عليه التقادم ليخرج منه شاب نسأله إن كان الأستاذ أحمد عبد الغني موجوداً؟ رد بالإيجاب. ثم سألنا من نقول له؟ قلت: تلميذ قديم علمه وجاء للسلام عليه وتقديم واجب الشكر له، مضى الشاب ليعود ويدعونا للدخول.
جلسنا في صالون المنزل قبل أن يدخل الأستاذ الذي بدا ملتحياً وأقرب إلى النحافة قليلاً، ذكرت اسمي إلى الأستاذ مباشرة وقلت له: لقد علمتني يا أستاذ في الصف الأول قبل 36 عاماً القراءة والكتابة، وأنا كنت في الخارج وأصبحت كاتباً. وجئت اليوم لأقدم لك واجب الشكر على فضلك في تعليمي القراءة والكتابة.
بدا على الأستاذ لبرهة شيء من الذهول واستغرق للحظة وهو يفرك في يديه في صمت أشبه بلحظات الصمت الصوفية، وبدا الارتباك عليه قبل أن يرفع رأسه موجهاً الحديث لي مباشرة: أنت، وذكر اسمي رباعياً؟ أجبته: نعم أنا هو يا أستاذ. ثم واصل ولا زالت الحيرة أو الذهول يعتريه، لقد تقاعدت قبل سنوات قليلة واشتريت أرضاً لأبني بيتاً جديداً، وأمس استغرقت في ذكريات الماضي ولكن شريط الذكرى توقف عندك أنت.
يا إلهي شعرت وابن أخي كأن شعر رأسينا قد تصلب من الذهول، أمس الأستاذ تذكرني من بين آلاف التلاميذ ومنذ 36 عاماً، وأنا اليوم وقبل غروب الشمس أطرق باب بيته لأقدم واجب الشكر له.
لكن يا الله لست متكاملاً ولن يبلغ الكمال من كان من البشر حتى ليبدو أن التجرد أو العلو لأرى الأمكنة تتساوى أو سواء، فما زال الحنين إلى المكان نفسه الأمكنة الأولى هي التي تعذب روحي كحنين بدائي إلى أشياء لا يمكن أن تعود أبداً.
وهكذا إذاً سوف أذهب في يوم من العام 1998 لأوقف سيارتي قريباً من البوابة التي طالما دخلت منها على مدى ست سنوات إلى المدرسة، لأمضي قدماً لا ألوي على شيء إلى الصف الأول مباشرة، بعد أن ألقيت بالتحية على بعض المعلمين الذين كانوا يجلسون تحت شمس الشتاء الدافئة في فناء المدرسة يتبادلون الحديث.
وقفت في نفس المكان الذي كان يقف فيه الأستاذ أحمد عبد الغني وخلف ظهري اللوح الأسود الكبير، ونظرت فوراً إلى المقعد الذي كنت أجلس عليه ويطل على النافذة جهة الشرق، لأرى فجأة أولاد صفي وأسمع أصواتهم واحداً واحداً وأين يجلسون، وذاك الطنين المختلط والمميز الذي نسمع صداه في مقاعد الدراسة. ولكنني لم أكن أعلم أن زيارتي هذه إلى الصف الأول سوف تكون الأخيرة، قبل أن يعاد هدم المدرسة وتشييد أخرى مكانها.