التاريخ المظلم للطب ..عبد الغني سلامة

الأربعاء 05 سبتمبر 2018 09:08 م / بتوقيت القدس +2GMT
التاريخ المظلم للطب ..عبد الغني سلامة



الطب، أحد أهم الاحتياجات الإنسانية، ومن أعظم منجزاتها، ولولاه لظل متوسط عمر الإنسان لا يتجاوز العشرين عاماً.. وتطوره من أهم المقاييس لرصد تطور أي مجتمع.. ولا حاجة لنا لمدح الطب وتبيان أهميته.. والطبيب في أي مجتمع شخصية مرموقة وجديرة بالاحترام.
ولكن، وبالرغم من القفزات الرائعة والعظيمة لتطور الطب على مدى التاريخ، هناك للطب تاريخ مواز.. تاريخ فيه صفحات مظلمة.. في هذه الصفحات المظلمة اقترف أطباء أخطاء وخطايا فادحة، بل وجرائم شنيعة.. بعضها كان بسبب محدودية أدوات المعرفة في تلك المراحل التاريخية، أي قبل الوصول لعصر الاكتشافات الكبرى والفتوحات المفصلية في مجالات العلوم المختلفة.. وبعضها كان عن جهل، وبعضها عن سوء نية.
في برنامجها الشهير "الإسبتالية"، تحدثت الدكتورة إيمان الإمام عن مرض وهمي اسمه "هستيريا النساء"، حيث قالت: عاشت النساء مئات السنين وهن متهمات بهذا المرض الخطير، وكان أول من اخترع هذا المرض هو "أبوقراط"، وكلمة هيستيريا في الإغريقية تعني الرحم؛ حيث اعتقد الأطباء حينها أن الاضطرابات النفسية، والأحزان، والقلق، وقلة النوم، وافتعال المشاكل، والعصبية، والمزاجية، وفقدان الشهية، والتعب والإرهاق.. وكذلك الاضطرابات المرافقة للدورة الشهرية، أو أثناء الحمل، أو ما بعد الولادة.. كلها سببها حزن وتوتر الرحم، بسبب الحرمان العاطفي، أو عدم الزواج، أو عدم الإنجاب، وأن هذا التوتر يسري في سائر بدن المرأة، بل إن الرحم نفسه يتنقل في داخل جسمها ناقلاً معه كل تلك المشاعر والأعراض السلبية.
وطالما أن هذا المرض مرتبط بالرحم؛ فيعني أنه لن يصيب الذكور؛ أي أن الهستيريا مرض خاص بالمرأة.. والأمر الآخر الذي يكشفه هذا التشخيص البدائي، هو نظرة الذكور (ومنهم الأطباء) للمرأة، إذ اعتبروا أن عقلها وعاطفتها متركزتان في رحمها.. ومن هنا ربما نشأت تلك النظرة الدونية للمرأة. 
ولزمن طويل تم تشخيص الهستيريا بوصفها مس من الشيطان، فكان العلاج بالتخلص من المريضة، أي قتلها، وحرقها، وفي مرحلة لاحقة كان يكتفي الأطباء باستئصال الرحم.. وهنا عندما نقول مريضة نعني أي سيدة تعاني من أي اضطراب نفسي أو جسدي من الأعراض التي ذكرناها، وبسبب ذكورية المجتمع كانت تضاف أعراض أخرى للهستيريا، فأي سيدة تبدي آراء مخالفة لقيم المجتمع، خاصة المتصلة بالدين، أو تعترض على زوجها في أي مسألة عائلية، أو تحتج على نظام العائلة كانت تتهم بالهستيريا، وأحياناً كانت التهمة أنها "متعلمة زيادة".
 في أوروبا وأميركا، كان يتم احتجاز السيدات المتهمات بالهستيريا في مستشفيات وملاجئ خاصة، ضمن ظروف بالغة القسوة، ولسنوات طويلة. 
وحتى مع بدء الثورة الصناعية ظلت النساء متهمات بالهستيريا، وأضيفت لهن تهمة جديدة: عدم قدرتهن على تحمل واستيعاب الحياة المتحضرة، وقد نشر أطباء عديدون أبحاثاً تؤكد تلك المقولة.. وحتى نهاية القرن الـ 19 كانت النساء ممنوعات من دخول الحقل الطبي، أو الاشتغال بالطب، أو حتى تعلمه.
إلى أن بدأ الأطباء يلاحظون أعراض الهستيريا على بعض الرجال، خاصة العائدين من الحروب، أو المجرمين، أو من عاشوا طفولة معذبة، ومع ذلك رفض الأطباء الاعتراف بأن هؤلاء الذكور مصابون بالهستيريا، ولأن العقلية الذكورية مرتبطة دوما بالعنصرية؛ فقد اعتبر الأطباء البريطانيون أن الرجال من الأصول اللاتينية هم وحدهم من يصابون بهذا المرض، في ألمانيا ظهرت أبحاث تؤكد أن الرجل الألماني محصن ضده، وفي أميركا اعتبروا العبيد فقط من يمكن لهم أن يُصابوا بالهستيريا!!
لم يشطب الأطباء مرض "هستيريا النساء" من قائمة الأمراض الحقيقية إلا سنة 1980.
ومثال آخر على الأخطاء الطبية: كان الأطباء في الحضارات القديمة (السومرية والمصرية واليونانية) يوصون بخلط الأفيون مع الشراب والطعام للمرضى، بمن فيهم الأطفال!! وحتى نهاية القرن التاسع عشر كان الأطباء يوصون بالمورفين كعلاج للعديد من الأمراض، ثم صار الهيروين نفسه المستخلص من المورفين يباع في الصيدليات كمهدئ ومسكّن وليس له أضرار جانبية. 
وكما أخطأ الأطباء بالسماح بتعاطي الأفيون ومشتقاته باعتباره دواء، أخطؤوا أيضا بالسماح بمادة DDT، التي استخدمت كمبيد حشري على نطاق واسع في النصف الأول من القرن العشرين، حتى أنهم كانوا يحمّمون الأطفال والعمال والمساجين بهذه المادة لتعقيمهم من الحشرات، وقد تبين لاحقاً أن لها أثراً مدمراً على صحة الإنسان والحيوان والنبات والبيئة.. إلى أن تم تحريمها دولياً. 
وأيضا، ولعقود طويلة كانت أسهل وصفة عند الأطباء "الكورتيزون"، يقترحونه لعشرات الأمراض، نظراً لقدرته العجيبة على الشفاء، واستجابة الجسم السريعة له.. إلى أن تنبه الأطباء لآثاره الجانبية الخطيرة، فجرى تقنين استخدامه بمحاذير شديدة.. وهناك عشرات الأدوية التي كان الأطباء يوصون بها مرضاهم، ثم يتبين لاحقا أن لها آثاراً سلبية جانبية، قد تؤدي أحياناً للسرطان، أو تسبب الموت.. اليوم، ولحسن الحظ، لا توافق وزارات الصحة في مختلف دول العالم، على أي دواء قبل التيقن منه، ومن أعراضه الجانبية، وقبل موافقة المنظمات والهيئات الصحية العالمية. 
أما أخطر الصفحات المظلمة في تاريخ الطب الحديث، فتلك المتعلقة بإجراء تجارب على الإنسان، وقد تورط أطباء كثيرون في تلك الجرائم، خاصة في ألمانيا النازية، وفي كوريا الشمالية، وفي كثير من الأنظمة الشمولية، حيث كانوا يجرون تجارب على أسرى ومعتقلين ومشردين، خاصة في مجالات الحرب الكيماوية، واختراع أسلحة جرثومية، أو حتى في تجارب على أدوية عادية لأمراض مستعصية، وهذا يجري أيضا في أميركا وأوروبا لدى شركات عملاقة في صناعة الأدوية والبحوث الطبية، ولكن بشكل سري جداً.. 
وكذلك، ما يتعلق بملفات الفساد في بعض المنظمات الصحية العالمية، التي لها أنشطة في دول العالم الثالث، خاصة في أفريقيا ومناطق الصراع الأخرى.. ويشمل هذا الفساد توزيع لقاحات فاسدة، أو أدوية منتهية الصلاحية، إلى جانب الفساد الكبير في مصانع الأدوية، خاصة فيما يتعلق بالأرباح الفاحشة، التي تتجاوز مئات أضعاف تكلفتها، أو الامتناع عن صناعة أدوية للأمراض المزمنة مثل السكري والضغط والسرطان.. لأن التجارة في تلك الأمراض تدر عليهم أرباحاً طائلة.. والملفات الثلاثة الأخيرة بحاجة إلى تسليط الضوء عليها أكثر في مقالات قادمة.