عاد آلاف الطلبة إلى مقاعدهم.. وبدأت معاناتهم ومعاناة معلميهم.
من يظن أن في المدرسة متعة للطالب أو للمعلم فهو مخطئ.. وللطرفين أسبابهما الموضوعية.
عزيزي المعلم، وأنت معلمنا جميعا.. أرجو أن تتقبل مني بعض الملاحظات.
تطلب منك وزارة التربية إنهاء المنهاج في الوقت المحدد، وتضع عليك مراقبين ومفتشين.. ويريد الأهالي منك أن يكون أبناؤهم من المتفوقين.. ولكن، أنصحك بأن تضع كل هذا جانبا، وأن تتذكر بأن سعادة الطالب وصحته النفسية أهم من إنهاء المقرر، وأهم من حصوله على علامات مرتفعة.. صدقني لا فرق كبيرا بين إذا تضمن المنهاج تاريخ الهكسوس والسومريين، أو لم يتضمنه، لا يهم إذا ركز كتاب الجغرافيا على حدود السودان أو الكونغو، أو إذا احتوى كتاب العلوم على مبادئ الكهرومغناطيسة، أو قوانين نيوتن.. كل هذه المعلومات سينساها الطلبة بعد الامتحان بساعة.. كما نسيناها نحن.. سيحتفظون فقط (كما فعلت أنت ونحن) بذكرياتهم السعيدة، والبائسة.. ركضهم، شقاواتهم، عدد العصي التي أكلوها، رحلاتهم إلى أريحا وطولكرم، ابتسامة معلم القواعد التي لم تفارقه حين كان يتحدث عن كان وأخواتها.. وجه معلم الإنجليزي المتجهم، الذي جعلهم يخجلون من إنجليزيتهم الركيكة أمام سائح أجنبي.. عصبية أستاذ الدين وغضبه حين سأله سامر ببراءة: كيف اختفت الناقتان في غراء حراء.
تذكر عزيزي المعلم أن لكل طالب موهبة وقدرات تختلف عن الآخرين، وأنه ليس مطلوبا منهم جميعا أن يتخرجوا عباقرة في مادتك.. ربما كان أسامة ضعيفا في الفيزياء، لكنه ماهرٌ في كرة القدم، وربما رسبت أميمة في امتحان الكيمياء لأنها لم تجد وقتا للدراسة بعد أن أنهت واجبات المنزل.. وهذه ليست نهاية الكون.
انتبه عزيزي المعلم لمحمود الذي يغالبه النعاس، ربما لأنه واهن من شدة الجوع، أو لأنه تأخر في شغله في الحسبة حتى المساء.. وإذا لاحظت أن إبراهيم لم يغير بلوزته من أول الفصل، فلأنه لا يملك غيرها، وإذا كانت مريم لا ترتدي جاكيت في عز البرد فلأن جاكيتها الوحيد في الغسيل.. هؤلاء بحاجة لانتباهك أكثر من حاجتهم لشرحك.
وإذا ظل سهيل منزويا على نفسه في الفرصة، فلأن عصابة عمران تتنمر عليه، أو لأنه لا يأخذ مصروفه اليومي.. وإذا رأيت حزنا غامضا في عيني علياء، فلأن زميلاتها سخرن من حذائها المهترئ، أو من بشرتها السمراء.. وربما كان مجدي هادئا أكثر من اللازم، ليس لأن أهله أحسنوا تربيته، ربما لأنه يعاني من صعوبات التكيف والاندماج مع الآخرين، أو لأنه فشل في تكوين أصدقاء.
وصحيح أن عمر يزعج الصف بمشاغبته، لكنه صار مشاغبا لأنه لم يفرغ طاقته في حصة الرياضة، وعماد ليس عدوانيا بالفطرة، لكنه صار كذلك لأن أبوه لم يقبّله منذ سنوات.. أو لأنه فقد فردانيته وخصوصيته بين إخوته التسعة.. أما سلمى فتظل سارحة في عوالمها الخاصة، ليس لأنها فاقدة للتركيز، ولا لأنها كسولة، بل لأن أهلها يخططون لتزويجها.
انتبه لموهبة ميادة في الرسم، ربما تكون مشروع فنانة، وراقب مهارة رأفت في التصويب، قم بإصلاح بورد السلة المكسور منذ ثلاث سنوات.. قل شكراً لهنادي على وسيلة الإيضاح التي سهرت حتى منتصف الليل لتنجزها، إثنِ عليها، وشجعها.. لا تقل لحسام إنك أخطأت في الإجابة، قل له وجهة نظرك بحاجة لمراجعة.
وإذا كان سليم يتردد كثيراً قبل الإجابة، أو يتلعثم فلأنه خائف منك، أو لأنه خجول.. شجعه بابتسامة صادقة، ستكتشف أنه موهوب.
تذكر أستاذي الفاضل أن نضال يأتي كل يوم متفائلاً، ونائلة تفيق بهمة عالية، وهؤلاء يأتون إلى المدرسة وفي ذهنهم توقعات كبيرة، وصور جميلة متخيلة للمستقبل.. لا تخيبوا آمالهم.. رجاءً؛ فهم ليسوا سببا في غلاء المعيشة، وهم غير مسؤولين عن رواتبكم الهزيلة.
أَعلمُ عزيزي المعلم أن همومك كثيرة، ووضعك المادي بائس، وأن مدة الحصة لا تكفي لحل مشاكل الطلبة، وأنها بالكاد تكفي لشرح المادة، وأنك لست طبيبا نفسيا، ولست أخصائيا اجتماعيا.. وليس مطلوبا منك إصلاح الكون.. ولكن.. الضحكة لا تكلف شيئا، ولا الكلمة الحلوة، ولا يوجد إنسان يعجز عن الابتسامة، وهذه لها مفعول السحر.
أعزائي المعلمين والمعلمات: ابحثوا عن مواهب الطلبة، وتفهموا تنوع قدراتهم، قبل أن تطلبوا منهم حفظ قصائد المتنبي، وحفظ رموز العناصر، والتغني بتراثنا المجيد.. فيونس يحب إجراء التجارب في المختبر، وهذا يساعده أكثر على فهم معادلات الاختزال، وسهام لديها فكرة ألمعية عن ألعاب الكمبيوتر، ورائد مولع بالروايات، ونور تجيد العزف على الساكسفون.. هؤلاء ليسوا قالبا واحدا، تأكدوا أن بوسعهم أن ينتجوا ما يفوق توقعاتكم.
بالنسبة للطلبة؛ رؤية الساحة نظيفة، والمعلمين مبتسمين أهم من ترديد النشيد الوطني، سماع نكتة أو حزورة في الصف أهم من حشو المعلومات في رؤوسهم.
طلبتكم بحاجة إلى كلمة تشجيع، وإلى معلم صديق.. بحاجة إلى عطف واحتواء.. أكثر من حاجتهم إلى فهم التفاضل والتكامل، وحفظ الجدول الدوري.
بدلا من حمل العصا أو بربيش البلاستيك.. إمزحوا معهم، واضحكوا قليلا في وجوههم، الضحك لا ينزع الهيبة، تقربوا منهم، صادقوهم، اسمحوا لهم بالجلوس كيفما يحبون، استمعوا لقصصهم، تعرفوا إلى أحلامهم، ومخاوفهم.. اتركوا لهم فسحة كافية من الكلام.. دعوهم يتحدثون بحرية.. صدقوني، ستحصلون على نتائج مبهرة.
لا ترهقوهم بالواجبات البيتية، اقرؤوا لهم قصة قصيرة، سيتذكرونها في الليل، أخرجوا معهم إلى الحقل المجاور، ازرعوا معاً دالية، أو حوض بقدونس، تناقشوا معهم عن الدوري الإسباني.. بعد كل ذلك، ستجدون وقتا كافيا للحديث عن قوانين المثلثات وأنواع الصخور.
لا تحرموهم من حصص الرياضة والفن، هذا أكثر ما يضرهم.. انقلوا حصة الفيزياء إلى المختبر، وحصة الإنشاء إلى المسرح.. حولوا تواريخ الحروب إلى قصص حزينة، فرغوا كتاب المطالعة من الحشو والمبالغات، تجاهلوا كل ما هو غير ضروري، وما تجاوزه الزمن.. تأكدوا حينها أنكم ستحصلون على نوابغ وعلماء وفنانين.
أدرك تماما أن التدريس مهمة صعبة للغاية، وتطبيق ما تقدم ليس أمراً هيناً.. ولكن فلنحاول.. وكلنا ثقة واعتزاز بمعلمينا الأفاضل..
أحبوا طلبتكم، وعيشوا معهم ذكريات جميلة.. هذا كل ما في الأمر.