كيف نجح الفلسطيني د. عز الدين أبو العيش أن ينقل المأساة التي ألمَّت بعائلته إلى العالمية، وأن يجعل من استشهاد أطفاله الأبرياء جرَّاء العدوان الإسرائيلي الغادر على قطاع غزة 2008/2009 ملحمة إنسانية، تقرأها شعوب العالم بأكثر من 23 لغة، تُمثل سابقة ربما في عالم الرواية، رغم أنها قصةٌ هي في تفاصيلها لها متشابهات كثيرة بين الفلسطينيين، من حيث إن شخصاً شقَّ طريقه بعصامية عالية، ونجح في تخطي كل العقبات الحياتية والظروف المعيشية الصعبة التي فرضها الاحتلال على شعبنا الفلسطيني منذ نكبة العام 1948، والذي بسبب تلك النكبة التحف السماء "يا رب زي ما خلقتني.. لا قدَّامي ولا وراي"، وأكل أكثرهم من خشاش الأرض، قبل أن تأويهم المخيمات وتُغيثهم بطعام البؤس والشقاء!!
الفرق بين كل هؤلاء الذين عايشوا المأساة وصاحبنا د. "أبو العيش" أنه كان ذا لفتة ذكية وصنع من جرحه رواية لاقت الاعجاب والقبول، وانتشرت بصدقية تفاصيل الوجع والألم فيها، لتدخل قلوب الملايين حول العالم ممن عرفوا فلسطين أو غابت عنهم جراح سطورها.
د. "أبو العيش" هو مثلي ومثلك من أبناء فلسطين، خرج من رحم اللجوء والتشرد وقسوة الحياة في المخيم، بدأ مشواره من بيت في المخيم مثل بيتي وبيتك، ونجح بجهده وتميزه الجامعي في صناعة نفسه كطبيب، ليؤهله ذلك للزواج وفتح بيت وبناء أسرة.. بالطبع هذا مسار سلكه الآلاف من الفلسطينيين، وتمكنوا من خلاله (أي التعليم) من الوصول إلى نيل الدرجات العلمية في الطب والهندسة والصيدلة والزراعة والتعليم ونحو ذلك، وهو في الحقيقة ما عليه حال الغالبية من أبناء شعبنا في الوطن والشتات، إلا أن ما نجح فيه د. "أبو العيش" هو شيء مختلف ولا يقدر عليه إلا أولو العزم والحكمة من الرجال.
إن د. "أبو العيش" شخصية حققت النجاح في مشوارها الأكاديمي كطبيب وأستاذ جامعي ذي اختصاص في مجال الولادة وأطفال الأنابيب، ساقته الأقدار في دراساته العليا إلى بريطانيا وإيطاليا وجامعة هارفرد الأمريكية، قبل أن ـتأخذه مأساة أهل بيته بأبعادها الإنسانية إلى الشهرة والعالمية، من خلال قصة حقيقية كان ضحاياها أهل بيته، في مجزرة ارتكبها جيش الاحتلال في سياق لا مبرر له إلا خلق حالة من الهلع والفزع، لتشريد أهل قطاع غزة مما تبقى لهم من أرضهم وديارهم.
كيف تعامل د. "أبو العز" مع هذا الحدث المأساة، هنا تنتهي المشابهة بينه وبين غيره، وتبرز حالة التميز و"الفرادة – Uniqueness"
إن قصة د. "أبو العيش" هي ملحمة إنسانية بامتياز، سطرها في كتابه "لن أكره – I Shall not Hate"، والذي صدرت طبعته الإنجليزية عام 2010، ثم تعاقبت ترجمة الكتاب بعد ذلك إلى اللغات الأخرى ومنها اللغة العربية.
صار د. "أبو العيش" بعد إقامته في كندا - مع ما تبقى من أولاده – هو من يروي القصة بنفسه، كشاهد لكل وقائعها المأساوية؛ الدم والأشلاء والدمار، وعنجهية جيش الاحتلال وصلف وظلم حكوماته المتعاقبة!!
بداية التعارف..
عرفت د. عز الدين أبو العيش أولاً من خلال مأساته، التي نقلتها الكثير من الفضائيات العربية والدولية، وسمعت كما سمع كل الفلسطينيين عن الجريمة البشعة التي ارتكبها جيش الاحتلال في عدوانه على قطاع غزة عام 2008/ 200، حيث تمَّ قصف بيته بقذيفتين، دمرتا جزءاً من بيته في جباليا، وكذلك أودت بحياة ثلاثة من فلذات كبده وابنة أخيه، وتركت جريحين آخرين في عائلته.
شاهدناه يتحدث بطلاقة عبر الفضائيات وبأكثر من ثلاثة لغات (العربية والانجليزية والعبرية والإيطالية)، مستصرخاً ضمير العالم، ومطالباً بالعدل لإنصاف قضية بناته الشهيدات، والتي غيبتهنَّ جريمة الاحتلال أمام عينيه.. إن هذا المشهد لأجساد بناته الغارقة في الدماء أشلاءً ممزقة ومتناثرة، هو مشهد يفقد فيه المرء - عادة - صوابه وتوازنه، ولكنه كإنسان مسلم يؤمن بربه وبعدالة السماء، وأن لكل أجل كتاب، وأن الموت هو حق علينا جميعاً، جعله متماسكاً وصابراً محتسباً، وأمدَّه بطاقة إيمانية جعلته يسمو ويتطاول على كل ما أصابه من جِراح وألم، ويتصرف بحكمة وعزيمة وإصرار، متخذاً من مأساة أهل بيته عنواناً لقضيته الوطنية، وأن يتحرك بها حول العالم بكل ما أوتي من قوة وجرأة وعلم ومهنية، لتظل هذا الجريمة لعنة تطارد دولة الاحتلال، ووصمة عار للجيش الذي يقتل المدنيين العزَّل بدم بارد، وبلا أخلاق أو قيم إنسانية.
بعد عدة سنوات من تلك الحادثة، دعاني صديق عزيز إلى بيته للقاء بالدكتور عز الدين، حيث أخذنا الحديث ساعات عدة سمعنا منه كل التفاصيل حول تلك القضية/المأساة، وما الذي يقوم به في الغرب للتعريف بالكارثة التي لحقت بأهل بيته، وأهداني كتابه "لن أكره"، حيث التهمت قراءته في يومين، وبعدها دعوته للعشاء في بيتي مع بعض الأصدقاء، حيث أخذت منا مناقشة الكتاب بعض الوقت، واستمر التواصل بيننا عبر الفيسبوك، إذ كنت اتابع جولاته وأنشطته في العديد من الدول الأوروبية والجامعات.
كنت قد سبق لي الرغبة في الكتابة عنه، إلا أن الظروف لم تسعفني فتأجل الأمر لسنوات أخرى، إلى أن التقيته مؤخراً في زيارته لأرض الوطن لرؤية الأهل والأصدقاء، ومتابعة القضية التي رفعها في المحاكم الإسرائيلية ضد جيش الاحتلال.
نعم؛ كانت هذه الزيارة لقطاع غزة فرصة لمتابعة الاستماع لمسيرته ومشوار حياته؛ ما حققه على مستوى طموحاته الشخصية وقضيته الوطنية، وما الذي يتطلع إليه أيضاً بهدف تحقيق أحلامه في المشروع الذي يعمل من أجله كذلك لتخليد ذكرى بناته الشهداء.
إن قصة د. عز الدين أبو العيش؛ الطبيب الفلسطيني ابن مخيم جباليا، الذي انتشرت قصة مأساته عالمياً؛ باعتبارها جريمة حرب ارتكبها جيش الاحتلال خلال عدوانه المدمر على قطاع غزة.
د. " أبو العيش"؛ هو الفلسطيني الذي جعل من محنته منحة وملحمة ومصدر إلهام، حيث أعادت تقديم الرواية الفلسطينية في الغرب بمشهد إنساني تنشد له القلوب لبشاعة الجريمة ووحشية الاحتلال، ولقدرة الأب في التعالي على جراحه، وعهده لبناته الشهيدات أن يجعل من أسمائهن ألقاباً وعناوين يتذكرها الفلسطينيون، ويقرأون عنها كشاهد على جرائم إسرائيل، وليس أرقاماً أو أكفاناً يطويها النسيان.
إن د. "أبو العيش"؛ الفلسطيني الحاصل على أكثر من 14 شهادة دكتوراه فخرية، ويتقدم اسمه للترشيح أكثر من أربع مرات لجائزة نوبل للسلام، يحمل اليوم مأساته الشخصية كـ"قضية وطن"، وتقرأ شعوب العالم قصته بكل اللغات الحيِّة، وتشاهدها مسرحية تعرضها الكثير من قاعات الأوبرا في أوروبا، وهو ما زال ثابت الخطى، ومصَّراً على طلبه من حكومة الاحتلال بالاعتذار لدماء بناته الشهداء، وهو اليوم يضع اللمسات الأخيرة لكتابه القادم "لا أخاف – I Shall not Fear"، والذي يستكمل فيه باقي فصول روايته.
إن الفلسطيني د. "أبو العيش"؛ الذي يطلقون عليه في الغرب اسم مارتن لوثر كنج الفلسطيني، قد أخذ العهد وعقد العزم ألا تذهب دماء بناته هدراً، بل سيجعل من هذه المأساة قصة حيَّة تروي تفاصيلها الأجيال، وتفخر بذكر أسمائهنَّ نوابغ فتيات فلسطين، من خلال المنحة التي تقدمها المؤسسة التي أقامها باسم "بنات من أجل الحياة"، والتي تقدم تسهيلات ومنحاً دراسية للمتفوقين من الطالبات في الشرق الأوسط، لتتحول تلك الأسماء (بيسان، وميار، وآية، ونور؛ ابنة أخيه) من حروفٍ نُقشت على حجر في مقبرة جباليا، إلى اسماءٍ لمدارس وجمعيات خيرية في أرجاء فلسطين وحول العالم.
د. أبو العز: تجربة نجاح
خلال ورشة عمل لمؤسسة بيت الحكمة للدراسات والاستشارات بعنوان "الرواية الفلسطينية والإعلام الغربي: تحديات وتطلعات"، تحدث د. أبو العيش عن تجربته الشخصية في الغرب، وقدَّم عدداً من مشاهداته حول فرص النجاح للخطاب الفلسطيني، واستشهد بما يقوم به من تحركات في الجامعات والمؤتمرات وعلى شاشات وسائل الإعلام الغربية، وقد فتح له كتابه "لن أكره" الأبواب، لينقل رويته بسياقها الإنساني، ويلقى بذلك تعاطفاً كبيراً على كل المنصَّات التي وطأتها أقدامه في الحواضر الأوروبية وأمريكا وكندا.
إن الفلسطيني د. "أبو العيش" يمثل مشهد فخر واعتزاز لنا نحن أبناء قطاع غزة وهذه الأرض المحتلة، ونحن نطالع نجاحاته وتألقه حول العالم، حيث نجح بامتياز في تقديم مأساة عائلته وقضية بلاده بلغة إنسانية يفهمها الجميع، وتمكن من تحريك ضمير الشعوب باتجاه التعاطف مع قضيتنا، في عوالم غربية امتطت عقلها ووعيها الباطن روايات الزيف الإسرائيلي، حيث تمكنت الحركة الصهيونية من خلال آلتها الإعلامية الهائلة في تسويق نفسها بصورة الضحية، وإخفاء مشاهد القتل والدم ووحشية الجلاد.
إن د. عز الدين أبو العيش قد نجح في كشف زيف الصهيونية وجرائم جيش الاحتلال، حيث تمكن بسلاسة قلمه ولسانه الذي ينطق بأربع لغات وإنسانيته الرائعة، أن يقدم قصة مليئة بالدراما والوجع، والتي تهيئت لها الأرضية لتقديمها بصدقية عالية ومؤثرة في الغرب.
إن د. "أبو العيش" هو اليوم في غربته كفلسطيني يقيم في كندا، ويحمل وأولاده جنسية ذلك البلد، هو في الحقيقة "أيقونة وطن" نعتز ونفخر به. إنه اليوم وبرغم عمق الجُرح والألم، وأحاسيس الأب المكلوم الذي فقد أعز ما يملك من فلذات كبده، يتحرك بعزيمة وإصرار ومهارة عالية في عرض تراجيديا الكارثة، التي لحقت بأهل بيته في 16 يناير 2009، وجعلت من قصة استشهاد تلك الفتيات البريئات مشهداً مأساوياً يتفاعل معه كل من شاهده أو سمع به.
إن د. عز الدين أبو العيش هو أحد الشهود الأحياء على جرائم الاحتلال الإسرائيلي وانتهاكاته للقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، وكل ما يعتبر جرائم حرب وجرائم بحق الإنسانية ارتكبتها إسرائيل بحق الفلسطينيين.
ونحن نتابعه في مشهد الحراك الإعلامي والإنساني في الغرب، فإننا نحث الكثيرين من الفلسطينيين المكلومين بجرائم الاحتلال توثيق مآسيهم؛ لأن الحقوق لا تسقط بالتقادم، ولا يضيع حقٌ وراءه مطالب.