اللافت في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، والفلسطيني منه على وجه التحديد، أن إسرائيل دولة تستجيب فقط للضغوط المباشرة عليها، سواء كانت هذه الضغوط سياسية، أو اقتصادية، أو عسكرية.
لا يوجد مثلاً في تاريخ الصراع مع إسرائيل ما يوحي بأن الأخيرة قد استجابت يوماً ما لنداءات العقل أو حتى للاستسلام الكامل لها.
مصر لم تستعد سيناء لأن الرئيس السادات قرر زيارة إسرائيل وإقامة علاقات سلام معها، ولكنها استعادتها، لأن مصر السادات قررت إدارة ظهرها للعالم العربي وللقضية الفلسطينية مقابل "سيناء"، وأعادتها بسيادة ناقصة ومشروطة.
في الحالة اللبنانية، لم تقبل إسرائيل الانسحاب من الجنوب اللبناني دون فرض اتفاقية سلام عليه وبشروطها، لكنها لم تتمكن من ذلك رغم كل محاولاتها لأن اللبنانيين قرروا استعادة أراضيهم بالقوة وحصلوا عليها بعد أن أدرك الإسرائيليون أن البقاء في لبنان مكلف جداً لهم. لم ينسحبوا حتى بترتيبات مع الحكومة اللبنانية، لكنهم فروا منه (الجنوب) ليلاً.
الفلسطينيون تنقلوا بين عنف المقاومة والمفاوضات. أخطؤوا عندما لم يبنوا قوتهم وفعلهم المقاوم داخل الأراضي المحتلة. وأخطؤوا عندما لم يعملوا على تجريم الحصول على الهوية الإسرائيلية وتجريم العمل في بناء المستوطنات. لكن الظروف أيضاً كانت معاندة لهم.
عندما كان المد القومي العربي من المحيط إلى الخليج، كانت قيادة الحركة القومية العربية أقل من مستوى المرحلة، وكانت هزيمة العام ١٩٦٧.
وعندما حاول عبد الناصر جاهداً ترميم قوة مصر واستعادة ما خسرة في الحرب، لم يعطه القدر الوقت الكافي ومات بعد ثلاث سنوات من الهزيمة لتقع مصر في أحضان السادات الذي كان يؤمن بأن أوراق الحل لا تكمن في قوة مصر، ولكن في البيت الأبيض، ولاحقاً، في اللوبي اليهودي في أميركا نفسها.
حركة المقاومة الفلسطينية ظهرت أيضاً في وقت كانت فيه إيران وتركيا من أهم حلفاء إسرائيل. بمعنى آخر، كان العالم العربي، وليس الفلسطينيون وحدهم، مكشوفاً للضغوط الإسرائيلية من جناحيه: الشرقي والشمالي. كانت الطائرات الإسرائيلية تتدرب في تركيا، وكان "السافاك" الإيراني شريكاً للموساد الإسرائيلي في تبادل المعلومات والعمليات ضد العرب. كان الوقوف ضد إسرائيل يعني تلقائياً الوقوف ضد أميركا ويستدعي التلويح بالضغط التركي والإيراني على العرب.
عندما سقطت إيران الشاه، تحولت سفارة إسرائيل فيها لسفارة فلسطينية. كانت هنالك فرصه للفلسطينيين للحصول على الدعم الذي حصل عليه لاحقاً "حزب الله" لمواجهة إسرائيل والانتصار عليها. لكن كان للعرب والفلسطينيين حسابات أخرى.
العرب كانت لديهم خشيتهم من امتداد الثورة الإسلامية وأعلنوا حربهم على إيران. والفلسطينيون، بعد خسارتهم لقاعدتهم العسكرية في لبنان، اختاروا طريق إعادة مصر للعالم العربي والتوجه للمفاوضات.
أي أوراق ضاغطة على إسرائيل اعتقد الفلسطينيون بأنهم يمتلكونها للتوجه في هذا الطريق؟
لا أعلم، لكن ربما كان هنالك شعور بأن التنازل عن فلسطين التاريخية، مقابل دولة على الضفة الغربية وغزة، سيجعل من إسرائيل تهرول لملاقاتهم في الربع الأخير من الطريق.
كانت هذه سذاجة سياسية يدفع الفلسطينيون ثمنها اليوم مما تبقى لهم من أرضهم ومن دمائهم.
منذ بداية العشرية الأولى من هذا القرن، أصبحت إسرائيل، وليس العرب، مكشوفة للضغوط التركية والإيرانية. فرصه جديدة للعرب والفلسطينيين.
للعرب، لاختيار طريق تطورهم السياسي والاقتصادي بمعزل عن التدخل الأميركي والإسرائيلي في شؤونهم الداخلية. وللفلسطينيين، للقيام بفعل مقاوم لاستعادة أرضهم تدعمه أهم دولتين في الشرق الأوسط.
لكن مرة أخرى كان للعرب والفلسطينيين حساباتهم الخاصة. النموذج التركي لم يعجب العرب الرسميين: تداول السلطة بشكل سلمي رأى فيه العرب الرسميون خطراً عليهم، وتحوّلت تركيا بفعل ذلك إلى جار يمكن القيام بتبادل تجاري معه على الأكثر، لكن لا يمكن النظر إليه كحليف يمكن الاعتماد عليه لتحقيق قدر من الاستقلال السياسي الذاتي بعيداً عن الهيمنة الأميركية.
إيران في المقابل، كان وضعها أسوأ بالنسبة للعرب. امتدادها الذي أخذ طبيعة مذهبية في العالم العربي رأى فيه العرب الرسميون خطراً عليهم. وبدلاً من السعي لمعالجة الخلل البنيوي في بلادهم، على سبيل المثال تحقيق المساواة في الدول التي يوجد فيها تنوع مذهبي، والتوجه للحوار مع إيران بهدف الحصول على ضمانات أمنية متبادلة، كان خيار العرب معاداة إيران ولاحقاً لذلك، تحويل القضية الفلسطينية إلى ورقة مساومة مع إسرائيل من أجل مواجهة إيران.
للفلسطينيين، كانت فرصه للعودة لخيار مقاومة الاحتلال بعد أن تبين لهم أن إسرائيل تريد من المفاوضات الوقت الكافي لابتلاع أرضهم.
الفلسطينيون كانوا حذرين من التعامل مع إيران حتى لا يغضبوا، ليس فقط العرب، ولكن أميركا وإسرائيل. حظ تركيا كان أفضل بالطبع مع الفلسطينيين وتم التعامل معها على أنها نصير سياسي، ربما لأن معاداة العرب وأميركا وإسرائيل لها لم تكن صارخة، كما هو حال إيران.
باختصار، إسرائيل لا تفهم لغة السلام والمفاوضات، وتفهم وتحترم لغة الضغط. لكن حتى "تضغط" عليك امتلاك أوراق قوة، ومن هو قادر على امتلاكها، هي تلك الجهة التي تحسن استغلال المتغيرات أو "الفرص" في الإقليم لصالحها. العرب والفلسطينيون، لم يقوموا بذلك إلى اليوم.