قال محمد البرادعي، نائب رئيس الجمهورية المصري السابق والمدير العام السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية « إن إدارة ترامب تقطع المساعدات عن الشعب الفلسطيني». وأضاف، إن «ما يدبر للفلسطينيين من جانب إدارة ترامب معروف مسبقاً للجميع، ومع ذلك فإن موقف معظم الحكومات العربية هو الصمت المريب». وتساءل البرادعي «هل على الأقل سنمد لهم يد العون لننقذهم وبالأخص أهل غزة من الموت البطيء؟ أم أن القضية برمتها لم تعد من أسبقياتنا بل وأصبحنا شركاء في العقاب؟». وأعاد البرادعي في تغريدته على تويتر ما قاله في مطلع العام، ونصه: «إلى كل عربي يود أن يفهم بإيجاز ما هو معروض حالياً على الشعب الفلسطيني هو : تنازلوا عما تبقى من وطنكم في صفقة الاستسلام المسماة بصفقة القرن وإلا سنقوم بتجويعكم. لقد أسمعتَ لو ناديت حياً».
البرادعي يحاول هنا قرع ناقوس الخطر المدبر والداهم وغير المسبوق الذي يواجهه الشعب الفلسطيني. وهو محق في ذلك، فإدارة ترامب تستفرد بالقضية الفلسطينية وتمضي في تصفيتها خطوة تلو الأخرى مستخدمةً تأييدها المطلق لدولة الاحتلال الإسرائيلي، لتوفير الغطاء لسياساتها الناشزة الداخلية والخارجية الأخرى المرفوضة دولياً. إن إرضاء إسرائيل واليمين القومي العنصري الإسرائيلي وامتداداته داخل الولايات المتحدة وفي العالم وتبني مواقفه العدمية من حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، هو الحبكة التي تنطلق منها إدارة ترامب وفريقها المتطرف في بلورة أفكار تصفية القضية الفلسطينية كضم القدس وإزالتها عن طاولة المفاوضات كما يقول ترامب، فضلاً عن سياسات الاستيطان المفتوحة التي تدمر مقومات الدولة الفلسطينية، وإلغاء حق العودة وإعادة تعريف اللاجئين الفلسطينيين بمعايير خاصة ذرائعية، ليس من بينها معايير القانون الدولي وجهات الاختصاص في الامم المتحدة، وهو ما يجري الاعداد له راهناً. بهذا المعنى فإن إدارة ترامب تستقوي بحكومة الاستيطان الإسرائيلية وباللوبيات العنصرية واليمينية الصهيونية والدينية داخل وخارج الولايات المتحدة لتأمين الغطاء والدعم لسياساتها الخاصة بالقضية الفلسطينية ولسياساتها العامة على صعيد دولي وإقليمي، ولإضعاف اي معارضة لها.
ما يؤسف له، ان المعارضة الدولية لسياسات إدارة ترامب باهتة ولم ترقَ الى مستوى الدفاع عن القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية. ويقتصر الموقف الدولي على عدم تأييد سياسات ترامب. وللأسف فإن المواقف الدولية تنتمي الي سياسة سلبية غير قادرة على منع المستوى الإجرائي والعملي شديد الخطورة . وفي غياب الضغوط والسياسات البديلة فان تحالف ترامب نتنياهو يمضي عمليا في تحويل سياساته الى أمر واقع. وينتقل من ضم القدس الى شطب قضية اللاجئين وترسيم الاستيطان عبر قانون القومية وشطب الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني، الى سلخ قطاع غزة عن الضفة الغربية. ليس هذا وحسب، بل ان الأمم المتحدة تساهم بشكل وبآخر في تحويل مأساة قطاع غزة الى قضية إنسانية، وهو المدخل الذي تستخدمه إدارة ترامب الى سلخ قطاع غزة وإذابته خارج الحل الذي تتبناه الامم المتحدة للقضية الفلسطينية. ضعف وعدم فعالية الموقف الدولي يعود الى غياب قطب دولي مبادر، وفي هذا الصدد فإن الموقف الأوروبي والموقف الفرنسي سجلا تراجعاً وغياباً لافتين وخلفا فراغاً ملأته إدارة ترامب بصفقة تصفية القضية الفلسطينية.
العطل والسلب في الحلقة الدولية امتد الى الحلقة العربية والنظام العربي الذي تتوزع مواقفه بين مستوى من التعاطي مع صفقة ترامب وبين الصمت والانتظار. وكما قال البرادعي في تغريدته «إن موقف معظم الحكومات العربية هو الصمت المريب». ولا يغير من حقيقة الموقف الرسمي العربي مواقف رفض واستنكار الصفقة ورفض ضم القدس ورفض العقوبات. فالرفض الذي لا يعطل او لا يؤثر في السياسات ينتمي الى الموقف السلبي. والرفض الذي لا يعمل بسياسات بديلة وبإجراءات تبطل او تعيق الإجراءات الأميركية الإسرائيلية يتحول الى شاهد زور على ما يجري. لقد أصبحت القرارات العربية الرسمية الجماعية والمنفردة على المحك اكثر من اي وقت مضى، المقصود بذلك قرارات القمم العربية وقرارات الدول العربية كل على انفراد. فلا يعقل السكوت على إجراءات وسياسات تصفية القضية الفلسطينية ومعاقبة الشعب الفلسطيني شر عقاب، التي هي على النقيض من المواقف العربية الرسمية المعلنة على الملأ، دون اعتراض عملي ودون فعل شيء. ولم يعد الأخذ باستراتيجية وجود أولويات ومخاطر اخرى غير خطر تصفية القضية الفلسطينية مبرراً او مقنعاً.
إن السماح لإدارة ترامب ولحكومة نتنياهو بحل الصراع على طريقتهما المتوحشة والمدمرة سينعكس وبالاً على شعوب ودول المنطقة. ولا شك في ان مرور الوقت بدون اعتراض عملي وجدي على الخطوات سييسر نجاحها، وسيجعل عملية إزالة آثارها الكارثية اكثر صعوبة وتعقيداً. في هذا الصدد يجوز القول ان تجليات صفقة القرن بدون اعتراض واحتجاج كانت الثمار المرة لإخماد وسرقة وقمع الثورات الشعبية العربية. حيث اصبح حال الشعوب العربية كحال أنظمتها في الصمت على الصفقة الى حد كبير. ولا يختلف حال الممانعين والمقاومين عن حال الصامتين على الصفقة في مجال الصمت والعجز وحالة التردي. ولم يكن خطاب الممانعين اكثر خواء وعجزا مما هو عليه الآن. حيث لا معنى للمقاومة التي لا تفعل شيئا لأخطر واشرس حلقة من حلقات المشروع الكولونيالي في عموم المنطقة. ولا يغير من هذا الواقع المزري الحديث عن حروب ومواجهات قادمة. فالصمت الآن هو الذي يجعل الصفقة تمر، وهو المطلوب أميركياً وإسرائيلياً. أما وجه الغرابة فهو مشاركة مقاومينا «حماس» في تمرير الصفقة عبر الاتفاق المنوي ابرامه والذي يفصل قطاع غزة ويخرجه من الصراع ويجعله يصمت في مواجهة صفقة تصفية القضية الفلسطينية. العنصر المشترك هو الصمت بين الممانعين والموافقين والضالعين، والصمت هو المطلوب.
ولكن، من يكسر الصمت؟ نظرياً ومنطقياً، يبدأ كسر الصمت من اصحاب القضية، المهددين بالقضاء على مصالحهم وكيانهم وحلمهم بالحرية. الرفض الفلسطيني الرسمي والصمود في مواجهة العقوبات والضغوط مواقف مهمة يمكن البناء فوقها. والخروج من المسار الأميركي ومسار اوسلو بالطبعة الأميركية الإسرائيلية التي قادت الى الصفقة مهم ويمكن البناء عليه. غير ان الموقفين السابقين على أهميتهما غير كافيين وليس بمقدورهما قطع الطريق على الصفقة. كسر الصمت يبدأ بتسريع الخروج من المسار الأميركي الإسرائيلي والانفصال الكامل عنه، وبتحديد مواقف تضع النقاط على الحروف في كل ما يتعلق بالصفقة والدائرين في فلكها، وبعدم توفير غطاء فلسطيني للصامتين، ويبدأ من إعادة بناء أشكال المقاومة الجماهيرية الفلسطينية، ويبدأ من إعادة بناء تحالفات جديدة عربياً ودولياً. فمن يفعل ذلك؟
Mohanned_t@yahoo.com