في بيرزيت أنت لا تتلقى المَعْرفة؛ أنت تلتقي بها وجهاً لوجه، تُعايشها، تُصادِقها دوماً، وتُخاصمها -أحياناً- فتنتصر هي وتفوز أنت فَرِحاً بهزيمتك، ستُغيّرك للأفضل وتترك بصمتها الأبدية في فِكرك وروحك وقد تترك بصمتك أنت فيها بما أخذْتَه منها وأعدْت صياغته بأسلوبك الخاص، أو بما أخذته منها وربطت بعضه ببعضه الآخر لتُنْتِج معرفةًً جديدة تُضيفها لأصل المعرفة.
في بيرزيت أنت لا تكتسب العِلم من أساتذتك والمناهج فقط؛ روحك تقتاته من حفلةٍ لفرقة صمود أو فرقة الفنون الشعبية، من مهرجانٍ إحتفالي بذكرى وطنيّة ما، وما أكثر الذكريات، مِن شعارٍ فيه تكثيف أفكارٍ مُستنيرة خطَّه فنّانٌ على قطعة قماش، عقلك يُحاوِر كلمات الخُطباء في المهرجانات الإنتخابية، ومصطلحات العُلَماء الباحثين في المؤتمرات العِلمية،
في بير زيت أنت أستاذ نفسك وأستاذٌ على كل مَن وما حَوْلك وكل مَن وما يحيط بك هو أستاذك الذي تتعلم منه. في بيرزيت أنت تنتمي للوطن من جديد؛ أكثر تجذُّراً وأعظم وعيا، فتزداد قوّة بالعلم والمعرفة، وكما (المؤمن القوي أحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كُلِّ خير)؛ المواطن المتعلِّم العارِف أحبُّ إلى الوطن وأنْفَع.
في بيرزيت وفي أحد المؤتمرات العلمية التاريخية في قاعةٍ -صغيرة إلى متوسطة- مُدَرّجة في الطابق الأرضي وفي الجهة الشرقية من مبنى كليّة التجارة؛ حضرت كمستمع له حق النقاش والتداخل والسؤال، وبعد أن انتهى أحد الأساتذة الضيوف من عرض بحثة رفعت يدي كأحد المتداخلين، فأثنيت على المعلومات القيّمة التي سردها الباحث ونقضت ما استخلصه من نتائج بناءً على معلوماته التي أوردها وافترضت نتائج مُغايرة، فثار البروفسور الباحث، وهنا تدخل أستاذي البروفسور (خليل عثامنة) وطلب مني الحضور إلى المنصة لتوضيح وشرح النتائج التي استخلصتها من ما أورده الباحث من معلومات، والتي تختلف عن الذي استخلصه الباحث نفسه.
وصلت المنصة وصِرتُ في مواجهة الحاضرين أساتذة وباحثين وطلبة وبعضهم ضيوف عرب وأجانب، وبدأت التوضيح؛ أشرح وأُقلّب بعيني وجوه المستمعين فانقضّت عيني على رَجُلٍ في الصف الثاني من المدرج، في أواخر الستين من عمره، خفيف الصلع أعلى جبهته، شعره أبيضٌ قُطني، ملامحه تنطق بالوقار والبساطة، استوقفت عيني ابتسامته وتركيز نظره علي، ساورني شكٌّ انه يبتسم ساخراً، وزادني الشك أنه أمال رأسه حتى كادت أُذنه أن تُلامس كتفه، فزِدت من حِدة نبرة صوتي ونظرتي كانت أحَدّ وما ذلك إلا مستمدٌ من منطقية وجهة نظري، التي أيدها الجميع حتى الباحث نفسه.
غادرت المِنصّة بخطوتين وقد أعلن مُدير الجلسة عن إستراحة قهوة، وهمَمْتُ بصعود المُدرّج وطَرْفـ عيني لا يبرحُ عين الرجل في الصف الثاني، الذي زادَ من إبتسامته واعتدل برأسه وأشار إليّ -بأطراف أصابعه المحنيّة في كفّه- أن تعال، فذهبتُ إليه ووقف ليصافحني، بدا قصير القامة مُمتليء الجسم، في لهجته جلالٌ ريفيٌّ عالٍ، حين قال لي إجلس ثم سألني عن اسمي ومن أي البلاد أنا، أجبته، ودون أن أسأله عرّفني بنفسه: أنا (شُـــكـري عـــرّاف)، من بلدة معليا، من الجليل الأعلى في فلسطين، ثم نهضنا وأكملنا حديث التعارف ونحن في طريقنا لردهة الضيافة، أحضرنا القهوة وعدنا للمدرج. استمر المؤتمر ثلاثة أيام ولَم أُفارق هذا العالِم الجليل العارِف، وأنا أجلس بجواره في الصف الثاني، وتعلّمت منه الكثير فهو باحثٌ كَتَبَ عن القُرَى المُهدّمة والمُهَجّر أهلها قَسْراً، وحدّثني عن جمال تلك الْقُرَى، وأنّ كثيرٌ من هذه الْقُرَى لم يَسبِقه أحدٌ في الكتابة عنها وتوثيق شواهدها، وحدّثني عن تاريخ الحضارات في الساحل الفلسطيني عبر العصور وصَدَمتني معلومة أننا في فلسطين لازلنا نُمارس طقوساً وثنية ورثناها من الحضارات السالفة على الرغم من الارتباط المبدأي لفلسطين بالديانات الثلاث، ومنها: طريقة دفن الموتى في بعض القُرى، والنذور (القرابين)، وغمس الكف بالدماء وطبعه على أبواب البيوت .... إلخ.
في نَفْس المكان من الصف الثاني في المُدرّج إلتقيت بعزيزين؛ الأوّل: عبد الناصر القيسي من مخيم العزة؛ ولا يزال الوفاء لتلك الزمالة -التي جمعتني بذٰلك العزيز مع العزيز في مكانٍ عزيز- يُخَفِّف من قسوة نقدي للجبهة الشعبية كُلَّمَا وَجَب النقد، والثاني: أبو خالد (عيسى قراقع)، هُناك التقينا على مدار أربعة أشهر؛ أسبوعياً، في إحدى مُتطلبات العلوم السياسية مستوى سنة رابعة بالنسبة لي ولعبد الناصر، ومُتَطَلّب إجباري للماجستير لا بُد لعيسى قراقع من اجتيازه.
هُناك تعارفنا بعمق، تحاورنا كثيراً، إختلفنا في بعض السُّنَن الوطنية واتّفقنا في جميع فروض الوطن، كان أبو خالد هادئاً في مظهره صاخِباً في جوهره، خافِت الصوت سليط السوط، قَلَمُه يَجلدُ ضمير كلّ حُرّ، وحين تقرأ ما يكتبه تذوق طعم الملح والماء على وجنات ذوي الأسرى، هُناك كتب بخط يده إهداء لي على كتابه عن مُعاناة لأسرى والأسيرات.
عشرون سنة مرّت وكأن أوّل أيامها أيّامنا الآن، لم ألتقي فيها بالعالِم شُكري عرّاف ولا بالرفيق عبد الناصر القيسي، ولَم ولن أُلقي بأيٍ من تفاصيل ذكرياتنا الجميلة من ذاكرتي في سِلال النسيان، وأحتفظ بها كمَصْدر مَعْرِفة ومَنْبع فَخار، والتقيتُ بالأخ أبو خالد أربع مرّاتٍ قصيرة، كان أطولها آخرها -على قُصَرِه وَصَمْته الصارِخ- على دوّار الشهيد الرمز ياسر عرفات برام الله في وقفةٍ تضامنية مع الأسرى المُضربين لأجل الحُريّة والكرامة، رأيت الأخ أبو خالد بين الجموع تفصلني عنه خمس خطوات، وكان يُمسك جواله بيده على أُذنه. تَلامَحْنا؛ فسار خطوتين وسِرت ثلاث حتى تعانقنا؛ إذ صَرَخَتْ يداي على ظهره، وصَرَخَت يَدُهُ الحُرّة على ظهري؛ مؤيِّدةً كل تحليلٍ ومعلومة وفكرة، إنّه صرُاخٌ ضد الإحتلال، ولِسانه المُنسِّق وعملائه، وضد مَن تقاطعوا معه بِمَا يَعْتَمِل في صدورهم مِن غِلٍّ وغيظ، وما يُلوث عقولهم من كِبْرٍ أجْوَف في رؤوسِهم الجَوْفاء، واتّفقنا أن المؤامرة تستهدف رأس وحياة الأخ القائد مروان البرغوثي، يحاولون جميعاً أن يهدموه، وكُلٌّ له أسبابه ودوافعه المريضة، وكِلانا يعلم أنّ هدم جبال شمال الخليل إلى الوِديان المُحتلّة غَربِيّها أهْوَن من هدم مروان، وأنّ كِلا الهَدْمين خيانة وعدوان؛ لا يَقِل عن عدوانية الإحتلال الذي هدم قُرانا في الداخل الفلسطيني المُحتل، استمر العِناق عشرون ثانية أو يزيد لم ننطِق بها بحرفٍ واحد حيث كان الأخ عيسى قراقع يستَمِع لِمُحَدِّثه، صرخنا بِصَمْت، وتباعدنا والعيون تُلَوِّح بنظرات الوداع.
إفترقنا جسدياً -ولن نتفارَق وطنياً- ولَم تُفارِقنا القناعة بأن القائد مروان البرغوثي الذي حاكَمه الإحتلال بتهمة شرف بناء خلايا المقاومة ؛ لن يُهْدَم، والأوْلى هَدْمُ هادِميها. سأكتفي دونما أنتهي، وأبدأ بالتّهنِئة؛ أخي أبو خالد؛ أُهنِّئك لتحلُّلِكَ من المسؤولية الرسمية بالإعفاء من مهمّتك كرئيس لهيئة الأسرى والمحرّرين، وكما لم تكُن مُتحَرِّراً من مسؤوليتك الوطنية تجاه الأسرى وقضاياهم قبل توليك المسؤولية الرسمية؛ لن تكون معفيّاً منها الآن، وعطاؤك مُستمٌِر بالإعتذار لفادي أبو عطيّة عمّا لم تَستَطِع، وبالوفاء في ما تستطيع.
أُهَنِّئك؛ لأن الذي كُلِّفَ بمهمتك مِن بَعْدِك؛ لجنةٌ الأقل كفاءةً فيها أكفأ من خيارٍ نَسّبه ياسر عبد رَبِه -ذات غَفْلة- وركّبه على ظهر الهيئة العالي، وليس بين الأخوة المُكلّفين مَن هو قليل الكفاءة. أهنِّئك؛ لأن الذي يترأس اللجنة (الأخ المناضل قَدْري أبو بكر) ينتمي لجيلٍ صَنع أهم المراحل في تاريخ الثورة الفلسطينية مِن بعد إنطلاقتها، صنعوه بالدم والدمع والعرق ويَفوح من كلِّها عِطْر البارود، هو ينتمي لجيلٍ حَوَّل المعتقلات لأكاديميات عُليا في النضال والعِلم، فتخرج منها القادة العِظام، ومنهم مَن يُجيد خمس لُغات، ومنهم من ألّف الكُتب والروايات وأَعَدَّ الدراسات.
عن جيل العمالِقة وبعضهم قرأت عنه، وبعضهم سَمِعْتُ عنه، وصغيرٌ غَضٌّ مثلي؛ قد يعرِفُ بعضَهم من خلال محيطه الجغرافي أو الإجتماعي أو العمل، ومنهم: (يوسف ذيب ومجاهد الشوبكي، محمد الشوبكي وجمال الشوبكي، نايف الجياوي وأبو الفهد طنينة، زهران أبو قبيطة وعلي مهنا، حسن المرقطن وأبو منير كراجة، عطيّة البطران وجبريل الرجوب، وقائمة الشرف والبطولة هذه تطول وتطول)، ومنهم مَن ظُلِم ولَم يحظى بالتكريم المُناسب، ولَم يَتحَصّل على استحقاقه الوطني، ومنهم مَن أُنْصِف، ومِنْهُم مَن حَصَد حقوق جيله، ونال أكثر مِمَّا يستحق؛ فنافس جيل المؤسِّسين في حقوقهم، وفاز بِبعضها، واستولى على حقوق الأجيالِ مِن بَعده (جيل الإنتفاضة الأولى)، فأعطى بعضهم ما يستحقون، وأعطى بعضهم أكثر مِمَّا يستحقون، وحرم بعضهم كُل ما يستحقون، وسحقهم دون رحمة. أخي أبو خالد: أمّا وقد بدأت الجراح بالنزيف دونما قصدٍ ورغبة، سأنتهي دونما أكتفي، وإذا شاءت الأقدارُ والتقينا؛ سأهنئك لأسبابٍ عديدة، فهذا العَلَنُ الفسيح يضيقُ بها وبالتصريح، ويتّسِع لها صدري الجريح.
ولنا حديثٌ -أحتفظ به في صدري- عن الوثنية في السياسة؛ بتقديم القرابين لمراكز القوى، وغَمس الأكُفِّ في دماء المؤسّسات، وطبعها على القرارات، وعن دفن الكفاءات وَثَنيّاً. (إنتهى).
سلامٌ على أرواح الشهداء، وسلامةٌ لجراح الجرحى، وسلامٌ وحريّة لأسرى الحُريّة.
(أمجد جبران)