" وفاة الطفل براء محمود خليل أبو هربيد 12 عاماً غرقاً في بركة سباحة بمنتجع شارم بارك .. وهو ابن الشهيد محمود خليل أبو هربيد والصبي الوحيد بين أخواته.. هكذا تلقيت خبر وفاة ابن شقيقي الطفل " براء" عبر خدمة الواتس اب"..
الخبر وقع علي كالصدمة سيما بعد أن تلقيت خبر وفاته وانا في بلاد الغربة.. قسوة الشعور صعبة الوصف "أن تفقد احد احبتك ولم تتمكن من القاء نظرة الوداع الأخيرة وطبع قبلة حارقة وجسده المسجى على نعش الوداع الأخير".
عام 2008 كان الاقسى والاصعب والاكثر شراسة، ليصبج الاحساس بتلك العائلة كمن حول الدفق الى قطرات ، كل شيء في هذا المنزل ليس على ما يرام، وكأن عجلة الحياة تسمّرت عقب رحيل الابن البكر محمود وسقوط أخوته جرحى بشظايا الصواريخ الإسرائيلية الحارقة والتى لاترحم، حتى خر المنزل صريعا من قصف الطائرات.
الشهيد محمود أبو هربيد كان واحدا من بين مئات الشهداء الذين سقطوا في أول أيام حرب 2008 على غزة، بالنسبة له ولزملائه كان يوما عاديا ولكن بالنسبة لمن شاهد أشلاءهم تتطاير بعد ساعات أدرك أنها البداية الصعبة.
القديم الجديد في قصة تلك العائلة هو ان مسلسل المعاناة والقهر والفقد لم ينته عندها، فالحياة سارت بعد رحيل محمود وارتقائه شهيدا الى جوار ربه، فبعد عشر سنوات من شن اسرائيل حرب ضروس اكلت الاخضر واليابس، كبر اطفال محمود " براء.. جنة.. تقى" ، ثلاثة أطفال تركهم محمود لايتجاوز الاضغر منهم ثمانية اشهر، كان يحلم دوما ان يرى طفلته الصغيرة المدلله " تقى" ان تسير على قدميها بعد ان تأخرت في السير وفقا ما تروي لنا والدته ، انتقل الاطفال برفقة والدتهم للعيش الى مدينة غزة، تاركين خلفهم الذكريات وكل شيء ممكن ان يذكر الام المكلومة برحيل فلذة كبدها البكر ليوصدوا الباب وأوصد الباب.
بخطوات رتيبة ذهب الطفل براء محمود أبو هربيد (12 عاما) برفقة اصدقائه إلى منتجع شارك بارك في مدينة غزة، فكان صباح " براء" غير المعتاد ، قبل اخواته بحرارة ولعب بجوار شقيقته المقربة " تقي" فهى الاكثر دلعا، وتأهبوا للخروج الى تلك الرحلة المشؤومة، فقلب الأم هو دليل " فلا تكاد الغصة تفارق قلب والدته وهى تسترق النظرات الاخيرة لفلذة كبدها "براء"، كانت تناديه دوما بالسند والرجل الصغير لاخواته .
في الخارج كان الناس على حالهم يتطلعون إلى فك الحصار وتأمين حياتهم، منهم من ذهب إلى عمله وفتح متجره، ومنهم من مشى في الشارع في يوم عادي من أيام الحصار، وصلت العائلة الى المنتجع السياحي وسط مدينة غزة، خفق قلب الأم " مي" مع دخولها الخطوات الاولى للمنتجع لكنها كتمت ما كانت تشعر به رغبة منها في جعل اطفالها يستمتعون باجازتهم الصيفية، فبعد وقت قصير تدخل مياه قليلة الى رئتي " براء" وتقتله على الفور ليصل مستشفيات قطاع غزة جثة هادة ويعلن عن وفاته رسمياً.
تسلل الخبر إلى أسرته تأكيدا على وفاته غريقاً، فاصدقاء " براء" في عمر الزهور بكوا بحرقة على رفيقهم البرئ الذي كان له من اسمه نصيب (براء)الذي قضى غريقا، فكم كان هذا الفتى بريئا كإسمه احبه كل من عرفه لم يكن طفلا كبقية الاطفال كان ملاكا لم تشفع له سنوات عمره الغض ان يتركه الموت ليفرح بسني عمره التي قضاها يتيما ليلحق بأبيه الشهيد ويسيرا سويا الى الجنة ..كانت دموع هؤلاء الابرياء كالبركان (صلاح-عمر-انس-احمد-صهيب-زغلول)تنهمر وتحرق قلوب من حولهم.
الآن باستطاعة شريط العمر أن يمر بهدوء، ليقفز إلى ذهن جدته ، تقول " كان يوم الجمعة قبل يوم من الغارات، انتظرت ابني محمود وكنت انتظر " براء ايضا في ذلك اليوم، كما اعتادت نهاية كل أسبوع لتناول طعام الغذاء برفقة عائلته مضيفة "انتظرته كثيرا لكنه لم يأت لزيارتي، شيئا غريبا كان يوسوس لي بأن ابني حدث له شيء، فقمت بالاتصال على هاتفه النقال فلم تكن هناك إجابة، قلب الأم دليلها شعرت بغصة كبيرة في قلبي، وبعد أكثر من ساعة ونصف من محاولاتي قام بالرد، كانت المرة الأخيرة التي أتحدث فيها إليه قبل استشهاده بيوم".
وتتابع "شعرت باشتياق كبير إليه، واشتقت أكثر إلى مداعبته لي، استمرت مكالمتي معه عشر دقائق واعتذر لي انه لن يأتي إلى زيارتي بسبب سوء الأحوال الجوية والبرد القارص، وأنه يخاف على أطفاله أن يصابوا بأي مرض".
تحادث الأم نفسها قائلة "هل حقاً لن تعود ثانية يا محمود؟!"، ومنذ رحيله دأبت الأم تردد عبارات الصبر والسلوان وهي تبكي بحرقة وألم "إنا لله و إنا إليه راجعون" . تسلي نفسها كثيرا وتقول "لقد تعب كثيرا في حياته وحان الوقت كي يستريح من عناء المطاردة" كانت رحلته طويلة ومهامه شاقة، رغم عمره الذي لم يتجاوز 28 عاما، الآن آن له أن يمد قدميه ويلصق ظهره بالأرض ويغمض عينيه وينام في رحمه الله".
لم يكن خبر غرق براء بالنسبة لشقيقتيه "جنة وتقى" شيئا عاديا لقد فتشتا عن قدراتهما للتماسك أمام جثمانه المسجى ولكنهما فشلتا، فانفجرتا باكيتان في وداعه، " ليش تتركنا لحالنا يا براء.. انت سندنا..عمال الإسعاف في مهمة مستحيلة ..كان صراخهم يعلو كل الاصوات ليختصر حكايات لاأبرياء وأطفال مثلهم لقوا مصير شقيهم " براء"..
