قراءة متأنية في قرارات اليونيسكو الأخيرة حول القدس..حمدان طه

السبت 04 أغسطس 2018 03:10 م / بتوقيت القدس +2GMT
قراءة متأنية في قرارات اليونيسكو الأخيرة حول القدس..حمدان طه



بق


لقيت القرارات الصادرة عن المجلس التنفيذي لليونيسكو، في دوراته الأخيرة ما بين 2015-2018، صدى كبيراً على المستويين السياسي والإعلامي في فلسطين والعالم العربي. وكان العنوان اللافت لردود الأفعال والبيانات الاحتفالية الصادرة عن الجهات الرسمية الفلسطينية وجامعة الدول العربية بأن هذه القرارات تاريخية وغير مسبوقة في تاريخ منظمة اليونيسكو، لأنها تؤكد حسب هذا الوصف حقوق الفلسطينيين في مدينة القدس من جهة وتنفي صلة اليهود بالقدس من جهة أخرى. وفي ظل الأجواء الاحتفالية الفلسطينية والعربية بهذه القرارات انتهج الجانب الإسرائيلي دبلوماسية ماكرة ونشطة في مناهضة هذه القرارات، وصلت حد إملاء ردود الفعل نفسها وإحداث تغيير في موازين التصويت داخل منظمة اليونيسكو.
إن التهليل الكبير والصخب الذي لقيه قرار المجلس التنفيذي سنة 2015 ما لبث أن بدأ في الخفوت التدريجي مع توالي القرارات في دوراته اللاحقة في سنة 2016 و2017 وما طرأ عليه من تبدل في لهجة القرارات وتضاؤل في عدد الدول المصوتة لصالحها، أظهرت تآكلاً واضحاً في الدعم الدولي التقليدي لفلسطين وبداية تحول نحو تأييد الموقف الإسرائيلي أو الامتناع عن التصويت، وهو وضع ينذر بالخطر الشديد، بما يستلزم قراءة متأنية لنصوص هذا القرارات ودلالاتها، وانتهاج سياسة واقعية جديدة.

مضامين القرارات
لا شك أن مقدمة القرارات الصادرة عن المجلس التنفيذي حول القدس المحتلة في تشرين الأول سنة 2015 ونيسان وتشرين الأول سنة 2016 وأيار 2017 والتي تبنت قرارات حول حماية التراث الثقافي في مدينة القدس، أعادت إلى الأذهان الديباجة المألوفة في القرارات السابقة حول القدس بما في ذلك تأكيدها على وضعية مدينة القدس كمدينة محتلة، وكافة المطالبات من السلطة المحتلة القيام بواجباتها انسجاماً مع مسؤولياتها كسلطة احتلال، وهي تأكيدات لم ترق لسلطة الاحتلال الإسرائيلي، بسبب سعيها إلى إسقاط قضية الاحتلال بالتقادم، وقد أعاد استخدام تعبير "سلطة الاحتلال الإسرائيلي" هذا الأمر إلى الواجهة، وأثار حفيظة الجانب الإسرائيلي، وهو ما يفسر اضطلاع رئيس الوزراء الإسرائيلي بإدارة الحملة المناهضة لليونيسكو.
تؤكد مقدمة القرارات عموماً على "أهمية مدينة القدس للديانات الموحدة الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام"، بما يدحض الادعاء الإسرائيلي بأن القرار ينفي صلة اليهود أو أي ديانة أخرى بمدينة القدس من عدمه. ولكن كيف تم استخدام هذا الموضوع تحديداً في حملة رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو في حرف الأنظار عن موضوع الاحتلال، وتحقيق تحولات في الموقف الدولي تجاه قضية القدس والقضية الفلسطينية عموماً.
وهنا لا بد من التساؤل، هل تنفي قرارات اليونيسكو صلة اليهود بالقدس حقاً؟ تؤكد مقدمة هذه القرارات مجتمعة على أهمية مدينة القدس للديانات الثلاث بما فيها الديانة اليهودية كما جاء في نصوص هذه القرارات، فمن أين جاءت ردود الأفعال الفلسطينية والعربية من قضية نفي اليونيسكو لصلة اليهود بالقدس والتي تصدرت عناوين الأخبار، فالقرارات لم تؤكد أو تنفي هذه العلاقة أصلاً. والإشارة الوحيدة في القرار الصادر سنة 2015 هي في الشطر الأخير من البند رقم 13، والذي ينص حرفياً على ما يلي:
"يدعو إسرائيل إلى احترام الوضع التاريخي الراهن للمسجد الأقصى كمكان عبادة إسلامي، ...إلخ". إذاً من أين جاء هذا الاستنتاج حول نفي صلة اليهود بالقدس؟ الحقيقة المؤسفة أن هذا الاستنتاج جاء كرد فعل انعكاسي للخطاب الإسرائيلي نفسه ومن خلال أقوال نتنياهو، وردود الفعل الدبلوماسية الإسرائيلية وعناوين الصحافة الإسرائيلية نفسها، والتي جرّت وراءها ردود الفعل الفلسطينية والعربية والدولية ضدها ولصالحها في الوقت نفسه. وهنا نتساءل هل ناقض القرار نفسه بالتأكيد على أهمية المدينة للديانات الثلاث في مقدمته، وعلى تأكيد إسلامية المسجد الأقصى من ناحية ثانية. والجواب طبعاً لا، فالقرار أكد على الوضع التاريخي الراهن للمسجد الأقصى كمسجد إسلامي منذ 14 عشر قرناً ـ دون الخوض في مجادلات تاريخية أو دينية، وهذا يفسر الإحباط الإسرائيلي الذي كان يأمل في تغيير الواقع السياسي الراهن انسجاماً مع سياسة التهويد الاستيطانية للمقدسات الإسلامية في القدس، خصوصاً ما يحاك من مخططات حول المسجد الأقصى على وجه التحديد.
وعلى خلاف ردود الأفعال الفلسطينية والعربية المتفائلة، فقد سجلت إسرائيل نجاحاً دبلوماسياً ملحوظاً في هذه القضية، ونجحت خلال السنوات الثلاث الأخيرة في تغيير موازين التصويت داخل المجلس التنفيذي لليونيسكو، وهو أمر ينذر بالخطر الداهم في المستقبل القريب إذا لم يتم تداركُه بدبلوماسية فاعلة. ففي شهر نيسان 2016 صوت المجلس التنفيذي لليونيسكو على مسودة قرار شبيه حظي بموافقة 33 دولة، ومعارضة 6 دول وامتناع 19 دولة وتغيب دولتين عن التصويت، ومن خلال مقارنة بسيطة فقد تقلص عدد الدول الداعمة للقرار سنة 2016 إلى 24، وحصل تراجع علني لدولة المكسيك، التي طلبت إعادة التصويت على القرار، وجرى تراجع ضمني للبرازيل التي أيدت موقف المكسيك، كما تحولت إيطاليا من معسكر الدول الممتنعة إلى خانة الدول المعارضة للقرار، فقد انفضت 12 دولة في غضون ستة أشهر، أما الدلالات الأخطر فقد جاءت من جهة دول الاتحاد الأوروبي، التي صوتت جماعياً ضد القرار أو امتنعت عن التصويت في بادرة تبعث على القلق، كما جرى تحول واضح في موقف فرنسا التي دعمت تقليدياً قضايا فلسطين، وظهر ذلك في تصويتها لصالح عضوية فلسطين في منظمة اليونيسكو سنة 2011، وتأييد إدراج ملفات التراث العالمي، إلى خانة الامتناع عن التصويت وإبداء التفهم للموقف الإسرائيلي كرد على الحملة الدبلوماسية الإسرائيلية التي قادها رئيس الوزراء الإسرائيلي، وصلت حد تعهد الرئيس الفرنسي الأسبق هولاند بتغيير نص القرار استجابة للدعوة التي شنتها الحكومة الإسرائيلية. وتبعها من دول الاتحاد الأوروبي كل من السويد وسلوفينيا التي أيدت القرار في شهر نيسان 2016 وامتنعت عن التصويت في السنة التالية. أما إيطاليا التي غالباً ما تحلت بالتفهم للأبعاد التاريخية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فقد تحول موقفها إلى صف الدبلوماسية النشطة المعادية لفلسطين كما جاء على لسان رئيس وزرائها رنزو ماتييه الذي أثبت جهلاً مطبقاً بالإشكاليات التاريخية.
سجل موقف الاتحاد الأوروبي انقلاباً ملحوظاً في سنة 2016 حد تصويت دول الاتحاد الأوروبي مجتمعة ضد القرار، وامتناع بقية دول الاتحاد الأوروبي عن التصويت في قرار جماعي. وانتهت حالة الاختراق للموقف الأوروبي التي ظهرت في التصويت على عضوية فلسطين في اليونيسكو سنة 2011 وفي التصويت على إدراج موقعي كنيسة المهد وطريق الحجاج سنة 2012 والمدرجات الزراعية لجبال القدس الجنوبية، بتير سنة 2104 على لائحة التراث العالمي. كما أن تصويت 6 دول ضد القرار، وامتناع 26 دولة على القرار يهدد الأغلبية التلقائية التي تتمتع فيها فلسطين في اليونيسكو ويمكن أن تنسحب على المنظمات الدولية الأخرى، وهنا اذكّر بإخفاق فلسطين سنة 2014 في الحصول على عضوية لجنة التراث العالمي، حيث لم تتمكن من الوصول إلى الحد الأدنى وهو 84 صوتاً، في حين سبق لإسرائيل الحصول على هذه الأغلبية قبل ذلك بما مكنها من عضوية لجنة التراث العالمي لأربع سنوات، بما يؤكد على ضرورة عدم الركون إلى الأغلبية التلقائية مقابل الدبلوماسية الشرسة التي تشنها إسرائيل، والتي نجحت في تحويل قضية تتصل بالاحتلال حسب القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة إلى نوع من الجدل الديني التاريخي لا مصلحة للجانب الفلسطيني في إثارته، وفوق ذلك تمكنت إسرائيل من تغيير موقف فرنسا وإيطاليا والمكسيك والبرازيل وباقي دول الاتحاد الأوروبي لصالحها. ويخطئ هنا من يعتقد أن الامتناع عن التصويت جاء لصالح فلسطين.
وقد تعززت هذه المخاوف جلياً في الدورة الأخيرة للمجلس التنفيذي سنة 2017، حيت ارتفع عدد الدول المصوتة ضد القرار إلى عشر دول، لتضم غالبية الدول الأوروبية الأعضاء في المجلس التنفيذي بما في ذلك اليونان. كما تآكل عدد الدول المصوتة مع القرار إلى 22 دولة فقط. لقد أظهرت نتائج التصويت الأخيرة اتجاهاً مقلقاً في تحول الموقف الدولي في قضايا طالما اعتبرت من ثوابت السياسة الدولية، وهي تحويل قضية الاحتلال الإسرائيلي لمدينة القدس المضمون في القرارات الصادرة عن مجلس الأمن والجمعية العامة إلى جدل ديماغوجي حول الحقوق التاريخية والدينية.
أما مشاريع قرارات حول "فلسطين المحتلة" المقدمة إلى المجلس التنفيذي في ربيع 2018 والمقدمة من المجموعة العربية، فقد تم التوافق دون جلبة على تأجيلها للمؤتمر العام في شهر تشرين الأول 2018، وجاء ذلك كرد فعل على انسحاب الولايات المتحدة وإسرائيل من منظمة اليونيسكو، وتدخلات الاتحاد الأوروبي في إطار محاولة التهدئة لإعطاء مديرة عام اليونيسكو الجديدة اندريه أزولاي التي انتخبت في تشرين 2017 فرصة للحوار، هذا في وقت يجري فيه فرض الوقائع على الأرض في القدس والأراضي الفلسطينية المحتلة، كان آخرها القرار الأميركي بنقل سفارة الولايات المتحدة من تل أبيب إلى القدس وإقرار الكنيست قرار القومية اليهودي العنصري الجديد الذي يجرد سكان فلسطين من حقوقهم التاريخية بالجملة.

موقف مديرة اليونيسكو
الأمر الآخر الذي لا يقل خطورة في هذا السياق هو موقف شخصيات دولية أممية ضد هذا القرارات، في تماه شبه تام مع الموقف الإسرائيلي، وهذا يشمل موقف السيد بان كي مون سكرتير الأمم المتحدة السابق الذي أدان القرار بلغة واضحة، وموقف السيد غوتيريس السكرتير الحالي وموقف السيدة إيرينا بوكوفا المدير العام السابقة لليونيسكو، التي أصدرت بياناً خاصاً أدانت فيه بشدة هذا القرار في شهر نيسان 2016 بعنوان "إننا أخطأنا"، متساوقة فيه مع الموقف الإسرائيلي، قالت فيه بأن الإشارة إلى "جبل الهيكل" كمكانة مقدسة للمسلمين فقط هو قرار سياسي وأنه غير مقبول، والذي جاء في سياق الرد على رسالة يائير لبيد، وتضمنت رسالة بوكوفا التأكيد على أهمية القدس كمكان مقدس للديانات السماوية الثلاث ومسؤولية اليونيسكو في دفع الأطراف نحو الحوار والسلام، في تجاهل تام منها بأن هذا التأكيد جاء في مقدمة القرار فعلاً. أما رد فعل بوكوفا الأخير فجاء أكثر حدة وانفعالاً في سابقة غير معهودة في تاريخ منظمة اليونيسكو تدين فيها المدير العام لليونيسكو قرار المجلس التنفيذي والمؤتمر العام، وتتخذ موقفاً مناهضاً لآليات عمل المنظمة الدولية التي ترأسها، بذريعة احترام التنوع الثقافي، ولم تشر مرة واحدة إلى مدينة القدس باعتبارها مدينة محتلة، ولا إلى الإجراءات الإسرائيلية التعسفية على الأرض التي تكرس واقع الاستيطان والتهويد للمدينة، بدءاً من قرار ضم المدينة إلى إجراءاتها التهويدية داخل المدينة ومحيطها. كما جاء موقف السيد ميخائيل ورب رئيس المجلس التنفيذي لليونيسكو أيضاً في هذا السياق.

أين تكمن المشكلة
منظمة اليونيسكو هي الساحة التي حققت فيها فلسطين أول اعتراف أممي بحقوقها الثقافية ونيل العضوية الكاملة سنة 2011، وهي ساحة ثقافية بالدرجة الأولى، ومحاولات تسييس بعض القضايا أفادت الجانب الإسرائيلي فقط. ولم تأت بالنفع على الجانب الفلسطيني.
وتكمن المشكلة الأساسية في السنوات الأخيرة في تحويل قضايا الحقوق السياسية والثقافية البديهية إلى ساحة جدل ديماغوجي حول القضايا التاريخية الدينية الأمر الذي يستدعي إعادة النظر في اتجاه وطرائق النشاط الدبلوماسي تجاه اليونيسكو.