للحرب في سورية تناقضات من الصعب حتى على المختصين في علم السياسة فهمها مهما قدموا من نظريات لتفسيرها.
كيف مثلاً يمكن فهم أن يدعي الروس حمايتهم لنظام دمشق من الجماعات الإرهابية بينما يتركون لإسرائيل حرية تدمير البنى العسكرية لذلك النظام؟
ولماذا يرغب الروس في استرضاء إسرائيل بإبعاد إيران عن حدودها أكثر من مائة كيلومتر، بينما تتمنع الأخيرة وترفض وتناور من أجل إخراج إيران من كل سورية وكأن ذلك حق لها؟
وكيف يمكن لدولة إسرائيل أن تدعي محاربتها للإرهاب بينما تدعم وتحمي جماعتي النصرة وداعش الإرهابيتين على حدودها مع سورية أمام أنظار العالم كافة؟
وكأن كل هذه التناقضات لا تكفي!
نلاحظ مثلاً أن نظام دمشق خلال السنوات السبع الأخيرة قاتل باستماتة لحماية نفسه من السقوط، بينما قبل على نفسه أن يتعرض للإذلال بشكل شبه يومي من قبل إسرائيل.
من المضحك قراءة بيانات نظام دمشق في كل مرة تقوم إسرائيل بصفعه: الهدف من الضربات الإسرائيلية دعم الجماعات الإرهابية، وفق بياناته أحياناً أو التغطية على النجاحات العسكرية ضد الإرهابين، أحياناً أخرى!!
لا نعرف متى سينتصر النظام لكرامة شعبه ولا نعرف إن كان سيفعل ذلك يوماً ما!
التجربة السابقة للازمة السورية كانت تشير الى أن هذا النظام لا يريد وغير راغب في محاربة إسرائيل، ولكنه لم يمانع قبول دعم آخرين كانوا يحاربونها مثل "حزب الله" و "حماس".
ما نعرفه أن هذا النظام كان قاسياً ودموياً عندما طالبه شعبه بالإصلاح، وأنه قاتل بشراسة الجماعات الإرهابية التي هددت وجوده، وأنه لم يتردد لحظة واحدة في تدمير مدن وقرى سورية عندما كان يشعر بالخطر.
ما نعرفه أيضاً أن هذا النظام قد جمع كل المتناقضات في سورية: إيران – وحلفاؤها- التي ترى إسرائيل وأميركا فيها خطراً عليها من جانب والروس الذين يعملون في الوقت نفسه على استرضاء إسرائيل وعدم معاداتها وكأنهم يخشونها.
وما نعلمه أيضاً أن نظام الأسد (الأب والابن) كان يريد محاربة إسرائيل حتى آخر فلسطيني أو لبناني لكنه لم يرغب أبداً بقتال إسرائيل مباشرة من أجل استعادة أرضه، إما بسبب الخشية من الهزيمة أو الخوف من سقوط نظامه، وربما أيضاً لأنه يعلم أن محاربة إسرائيل ستتسبب في دمار سورية.
اليوم لا توجد أسباب لهذه المخاوف:
حلفاء النظام بعشرات الآلاف من المقاتلين في سورية لمنع نظام الأسد من السقوط.
إسرائيل اليوم أكثر وهناً وعجزاً عن تحقيق انتصار بضربات خاطفة وسريعة كما كانت تفعل سابقاً، وعليها أن تفكر عشرات المرات قبل شن حروب جديدة قد تتسبب بهزيمتها.
أما البنى التحتية السورية فقد أصبحت خراباً ولن تزيدها خراباً أي حرب جديدة مع إسرائيل.
التاريخ يذكرنا بأن دولة الاحتلال لا ترتدع إلا إذا شعرت بتهديد حقيقي والمرة الأولى التي حدث فيها ذلك كان في العام ٢٠٠٠ بعد أن شعروا بأن الاحتفاظ بالجنوب اللبناني مكلف كثيراً لهم بفعل ضربات "حزب الله".
نتذكر بأنهم طالبوا بخروج آمن وبتوقيع اتفاق لوقف إطلاق النار، لكن "حزب الله" أصر على خروجهم دون قيد أو شرط، ووفقاً لقرار مجلس الأمن رقم ٤٢٥ وكان له ما أراد.
في نفس الوقت، حرب العام ٢٠٠٦ مع "حزب الله" التي شعروا فيها بالإذلال أجبرتهم على عدم الاعتداء على لبنان منذ ذلك التاريخ. يستبيحون الأجواء اللبنانية، هذا صحيح، لكنهم لم يقصفوا هدفاً واحداً في لبنان منذ تلك الحرب.
إسرائيل دولة لا تفهم معادلة الردع بالبلاغة العربية، ولكن بقوة الرد. وهي قوة لا تتطلب أحدث التكنولوجيا ولكنها تتطلب إرادة القتال والاستعداد لتحمل تبعات الصراع مهما بلغت الأثمان.
في هذا السياق تأتي قضية الجولان. إذا كان النظام السوري يريد أرضه، فإن الفرصة المتاحة له هي الآن.
بدلاً من الاستماع لروسيا بشأن إخراج إيران من سورية أو إبعادها عن حدود إسرائيل، عليه أن يطرح مسألة استعادة الجولان المحتل بكل قوة، وأن يعمل على ذلك بكل الطرق المتاحة له وهي كثيرة تبدأ بالتذكير بحق السوريين في مقاومة من يحتل أرضهم، مروراً بربط مسألة الخروج الإيراني باستعادتها، وانتهاءً بتشكيل مقاومة فاعلة تجبر إسرائيل على الانسحاب منها مثلما حدث مع لبنان.
كل ما نخشاه أن تبدأ حفلة إعمار سورية واحتفالات انتصار النظام على "خصومه" قبل استعادة الجولان.
سيكون هذا كمن يعلن بأن ما جرى في سورية هو آخر الحروب وأن استعادة الجولان ليست على أجندة نظام دمشق.
سيكذبون ويكذبون باسم التوازن الاستراتيجي مجدداً، باسم الاحتفاظ بحق الرد بالمكان والزمان المناسبين، لكننا نعلم، أن بداية حفلة الإعمار ستكون بمثابة قرار بالتخلي عن هضبة الجولان لعقود قادمة.