دفع الفلسطينيون على مدى هذا القرن او المئة عام التي مضت من عمر هذا الصراع الذي لم ينته، ثمناً سياسياً لمرة واحدة وأخيرة، حينما قرروا الاعتراف بوجود إسرائيل على حدود العام 1948 او ما قبل الخامس من حزيران العام 1967. وقد كان هذا الاعتراف او دفع الثمن السياسي مشروطاً ضمنياً بالحصول على دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة، على جزء صغير والأقل حجماً من فلسطين أي في الضفة وقطاع غزة.
لكن إسرائيل التوسعية والطامعة لم تقر او تسلم فعلياً بهذه المعادلة، وفي ذروة هذا الهجوم اليميني المتطرف والذي لم يسبق له مثيل، ربما ان هؤلاء الإسرائيليين الأيديولوجيين يعتقدون بأن الأمر الواقع على المدى البعيد، سوف يكون بديلاً عن القبول او التسليم بمطالب او معادلة الفلسطينيين، وتكون بذلك فلسطين التاريخية كلها هي ارض إسرائيل.
والشاهد اليوم ان دونالد ترامب قد يكون بدأ يتسرب اليه الشك بعد جولة مبعوثيه الأخيرة، من ان ما اسماه صفقة القرن بالطريقة التي يتبعها أي يفرضها كأمر واقع على الفلسطينيين لا يمكن تحقيقها او تمريرها، وانه قد يكون من الضروري الآن اعادة تعديل المقاربة او الأسلوب. وقد لا يكون هذا الافتراض صحيحاً بالنظر الى ان هذا الرئيس يتحكم بسلوكه وردود افعاله المزاجية او الذاتية المفرطة.
لكنهم في اوساط الزمرة الحاكمة في إسرائيل ربما من المستبعد تماماً وغير المحتمل، ان مثل هذا الشك حول سلامة المشروع ان يكون مطروحاً، طالماً انهم يعتقدون، وهذا ما يعبر عنه سلوكهم اليومي، بأنهم على العكس من ذلك يسيرون من نجاح الى نجاح في ذروة هذا الهجوم غير المسبوق الذي يواصلون القيام به، وان المسألة مسألة وقت على اتمام المهمة.
وواقع الحال اننا لم ننجح حتى الآن أي بعد خمسين عاماً من الاحتلال التوسعي عام 1967، في إزالة هذا الاحتلال من الضفة الغربية على وجه التحديد أي القلب الحقيقي للدولة الفلسطينية العتيدة، رغم أننا استطعنا ذلك جزئياً بنزع هذا الاحتلال المباشر وطرده من غزة. لكن واقع الحال ايضا ان إسرائيل لم تنجح في إقناعنا وجعلنا نحن الفلسطينيين والعرب والمحيط الإقليمي والدولي نسلم باحتلالها ودفع ثمن سياسي كنتيجة لهذا الاحتلال. وان هذه هي المعادلة التي تتحكم أخيراً بهذا الصراع في مداه المنظور والبعيد على حد سواء.
وقال عرفات مرة إن "لحمنا نحن الفلسطينيين مر"، وربما هذا ما وعاه أخيراً وأدركه دونالد ترامب الذي على ما يبدو لم يأخذنا على محمل الجد، او حاول الاستخفاف بنا وإهانتنا بالمحصلة. ولكننا بالنتيجة رددنا له هذه الإهانة والصفعة وعلمناه من نحن.
وصحيح ان الإسرائيليين يكابرون وبلغوا حداً من الوقاحة والجرأة على تجاوز ما اعتبر في وقت سابق، اقله منذ التوقيع على اتفاقية اوسلو، خطوطاً حمراء او منطقة محرمة فيما سمي A-1 في الخان الأحمر، باعتبار ان هذا التجاوز يمثل خرقاً لمبدأ التواصل الجغرافي المفترض لإقامة الدولة الفلسطينية العتيدة. وبلغوا حداً من هذه الوقاحة او العدوانية لسن قانون يتيح لهم سرقة الأموال الفلسطينية من اجل تشويه صورة النضال الفلسطيني، باعتبار ان شهداءنا وأسرانا مجموعة من الإرهابيين وليسوا مقاتلين من أجل الحرية، وضحايا بالمجمل للاحتلال.
لكن واقع الحال ان هذا الاحتلال ليس استثناء في التاريخ وقوانين هذا التاريخ، وان ما يحدث وقد تحولوا بدورهم الى عبيد للحرب وقوة السلاح والعيش على حد السيف، الى ان يفقدوا مع مضي الوقت وتطاول الزمن منظومة القيم التي حاولوا منذ العام 1948 حتى حرب حزيران 1967 تسويقها في العالم، باعتبارهم استثناء وسط منطقة شديدة التخلف ولا تشارك العالم الحر، أي الغرب، الذي فاخروا بالتماهي مع قيمه، هذه القيم والمعايير.
وهذا يعني ان جهداً استمر لعدة عقود وعشرات من السنين في بناء هذه الصورة، هو الذي يتهاوى الآن ليبدو الاحتلال اخيراً هو الاحتلال كما في الماضي القريب، شنيعاً ومستفزاً وعاراً ومجرداً من أي أخلاق، وفاسداً وموضع إدانة متواصلة باستمرار.
وقد تحتجب او تختبئ هذه العيوب او النواقص والتشوهات الأخلاقية خلف ستار حديدي من القوة الطاغية الى حين، لكن تأثيرها او مفاعيلها تبدو كالماء الراكد الذي يجري في الأعماق كما يقول المثل الانجليزي، او كالمرض الخبيث الذي لا يظهر الى السطح كانكشاف تاريخي الا عندما يبدو انه قد استفحل تماماً في الجسد. وان كان بعض الأعراض والمؤشرات يبدأ في الظهور مبكراً كدالة على هذا المرض، مرض الفساد العام الذي يبدأ من الرأس، فساد الرجل والتحقيق معه مثالاً.
والواقع ان هزيمة الاحتلال والاستعمار عموماً في التاريخ انما كانت هزيمة معنوية واخلاقية اولاً للفكرة، قبل ان تتحول هذه الهزيمة كإفلاس واندحار استراتيجي. حيث يبدو التوقيت هو العامل الحاسم مثل الانقضاض بالضربة الاخيرة على عدو كان قد تم اندحاره تماماً من قبل، او تم انهاكه على محور الزمن. وهو ما عبر عنه لينين بشرحه لهذه الاستراتيجية: "تأجيل العمليات الحاسمة حتى إنهاك العدو وإذابته".
والراهن ان الاحتلال الإسرائيلي هزم سياسياً وأدبياً وأخلاقياً وإعلامياً وقانونياً وبالإجمال كفكرة، وهذا يعادل هزيمة استراتيجية. وان قدرته على مواصلة الاحتلال المادي على الأرض هو المسألة التي أصبحت مجرد توقيت او مسألة وقت. اذا كان ما يحدث الآن في فلسطين وحولها هو مخاض تاريخي ربما ليس له سابقة الا بعد الحرب العالمية الثانية، وهي نفسها الحقبة التي شهدت تشكُل المنظومة السياسية والقانونية والأخلاقية التي ما زالت تمثل المحكومية الدولية، ولكن مع اختلاف او فارق تاريخي ان أميركا وإسرائيل الوليدة آنذاك كانتا الأكثر تماهياً مع هذا النظام، هما اليوم الدولتان الوحيدتان المارقتان والمعزولتان في اطار هذا النظام.
وقد تكون المفارقة الأخرى ايضا في هذا السياق التاريخي، ان الفلسطينيين هم الذين يواجهون إسرائيل الاحتلالية ويحاصرونها حول العالم، كما يواجهون إدارة ترامب بنفس الأسلحة والأدوات التي كونت المنظومة السياسية الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، ولعبت اليهودية العالمية بعد المأساة التي تعرض فيها اليهود على يد النازية الدور الأكبر والمباشر في بلورة مبادئها، ولا سيما القانون الإنساني الدولي.
ما يعني ان قدر القضية الفلسطينية بل والنضال الفلسطيني التاريخي الذي كان فذا استثنائياً وغير عادي، ان يحمل خلاله الفلسطينيون على أكتافهم تحقيق مجموع هذا الإرث. وفيما يبدو رئيس هذه الحكومة الأكثر تطرفاً في إسرائيل بنيامين نتنياهو، يثير عاصفة غاضبة في إسرائيل بسبب بيان صاغه مع بولندا حول المحرقة. فان الفلسطينيين هم الذين يستطيعون حشد هذا التضامن الدولي في الخان الأحمر، للوقوف في وجه احتلال لا يني يتماهى مع أحط وأوسخ ما حواه الإرث العنصري والفاشي، وخصوصاً ما حواه هذا الإرث المُخزي من تطهير عرقي.