على عكس ما قد يعتقده البعض بأن الحرب في اليمن، العلاقات المتوترة مع إيران، أو تلك القائمة مع الولايات المتحدة أو حتى صفقة القرن، فإن ما يشغل بال الناس ويشد انتباهها أكثر في العربية السعودية هو تلك القطيعة التي قام بها ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان بين الحكم والمؤسسة الدينية الوهابية.
يقال إن الأمير كان قد استدعى رجال الدين السعوديين وأنه قد أخبرهم صراحة أن "الحلال والحرام" يجب أن يكون قائماً على ما هو موجود في القرآن الكريم، وليس في عقولهم.
لذلك شاهدنا خلال العام المنصرم حلاً لشرطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تبع ذلك السماح بافتتاح دور عرض السينما وأماكن الترفيه، وتبعه أو بالتوازي معه السماح للنساء بحضور المباريات الرياضية إلى جانب الرجال، والحفلات الترفيهية، وأخيراً قيادة السيارات.
صحيح أن حقوقاً كثيره للمرأة ما زالت غائبة مثل الحق بالسفر دون إذن ولي أمرها، دراسة تخصصات تقنية ما زالت مفتوحة فقط للرجال لعدم وجودها في الجامعات الخاصة بالنساء، وتمثيل أكبر في مؤسسات الدولة.
لكن قوة الدفع في هذا الاتجاه قد بدأت وقد فات الأوان لوقفها؛ لأن ما تم الحصول عليه إلى الآن أصبح حقوقاً مكتسبة سيتم الدفاع عنها إن حاولت المؤسسة الدينية إعادة العجلة إلى الوراء.
حتى وقت قريب كان هنالك نوع من الزواج الكاثوليكي بين مؤسسة الحكم في السعودية وبين الوهابية الدينية المتشددة.
مؤسسة الحكم لها السياسة والمؤسسة الدينية الوهابية لها السيطرة الكاملة على مجمل الحياة الاجتماعية.
التشدد في الدين في المدرسة الوهابية ناتج من طبيعة فهمها له والتي تقوم على أربعة ركائز:
أولاً، الوحدة بين الدولة والدين. في هذا السياق الدولة في المفهوم الوهابي يجب أن يكون لها إمام واحد، سلطة واحدة ومسجد واحد. وأن وظيفة الإمام، الحاكم، هي تطبيق الشريعة الإسلامية.
ثانياً، الشرك، عدم التوحيد، لا يكمن في الإيمان بوجود أكثر من إله لهذا الكون، ولكن في عدم الوحدة بين ما هو موجود في القلب وما يتم قوله وفعله.
إذا كنت "موحداً" حسب الوهابية، فإن ذلك يجب أن يتجلى في أقوالك وأفعالك وما في قلبك. لذلك إذا زرت أحد القبور أو إحدى "الحسينيات" فإنك تقوم بفعل "شركي" لأن "حبك" لله يشاركه به شخص ما حتى لو كان هذا الشخص جثه تحت التراب.
من هنا مثلاً، رغبة الوهابيين بتدمير القبور والحسينيات التي لها رمزية خاصة لدى بعض المذاهب أو الفرق الإسلامية.
ثالثاً، الإسلام الحقيقي هو فقط الإسلام الذي تواجد في عهد الرسول وصحابته من الخلفاء الراشدين. أي سلوكيات أو نظم لا تتطابق مع ذلك العصر هي في تقديرهم حرام وتجب القطيعة معها.
أخيراً، حتى يتم الحكم بما أنزل الله، فإن الغاية الكبرى للمسلمين هي الجهاد ومحاربة "الكفار" وإخضاعهم لحكم الإسلام والمسلمين.
"الجهاد" هنا، له مفهوم وحيد وهو قتال المشركين أو الكفار والانتصار عليهم، هي حرب إذاً إلى يوم القيامة، وهي حرب ليست من أجل الدفاع عن النفس أو تحرير أرض، ولكن من أجل السيطرة على الآخر وإخضاعه لحكم الإسلام الوهابي.
قطيعة الأمير السعودي مع هذه الأفكار المتطرفة يجب أن تسجل له، هي ثورة حقيقية على عهد بدأ منذ إنشاء المملكة السعودية الأولى قبل مائتي عام واستمرت خلال المملكة الثانية والثالثة التي بدأت في ثلاثينيات القرن الماضي.
هذا لا يعني أن المؤسسة الدينية الوهابية قد اختفت كلياً في العربية السعودية، لكن قدرتها على التأثير في اتخاذ القرارات وفرضها على الناس قد أصبحت هامشية، وهذا يسجل للأمير السعودي حتى وإن اختلف البعض معه في مواضيع سياسية.
كانت هنالك قناعة، وأعتقد أنها ما زالت موجودة، بأن التدرج في نقل المجتمع السعودي من حالة التشدد الديني إلى التسامح واحترام الآخر المختلف والسماح للسعوديين بممارسة حياتهم مثل بقية شعوب العالم، يتطلب بعض الوقت، لأن ما تم تأسيسية خلال مائتي عام لا يمكن إلغاؤه بقرار سياسي من أعلى فقط، لكن الواقع أيضاً يقول، إن رغبة الشباب السعودي، الذي يشكل أكثر من ٦٠٪ من المجتمع تدفع بالتسريع في هذا الاتجاه.
هي ثورة اجتماعية إذاً بدأت من القمة وحظيت على دعم شعبي ـ شبابي عارم لدرجة أنها تمكنت من التغطية على ملفات مهمه مثل الحرب في اليمن وعلاقات العربية السعودية الخارجية.