فريق ترامب للمنطقة، الثلاثي الأمريكي (كوشنير، غرينبلات والسفير الأمريكي في دولة الاحتلال دافيد فريدمان)، سماسرة العقارات من نيويورك؛ يعملون بدأب لتصفية القضية الفلسطينية، مستغلين الحالة الفلسطينية السيئة، عبر ما بات يعرف بـ "صفقة القرن"، صولات وجولات، لقاءات سرية وعلنية، في عدد من عواصم الدول العربية بالتشاور والتنسيق مع دولة الكيان الصهيوني، وآخرها جولة الأسبوع الماضي للمنطقة، ويظنون أن بوسع المال أن يفعل كل شيء.
التسريبات المتواترة تشير إلى أن الخطة تدور حول إقامة دولة فلسطينية مستقلة في قطاع غزة وفي أجزاء من الضفة الغربية دون ترسيم واضح للحدود، دون اعتراف بالقدس الشرقية كعاصمة للدولة الفلسطينية، دون حل لمسألة اللاجئين ودون إخلاء للمستوطنين. قطاع غزة هو البوابة الرئيسية لتنفيذ وتمرير الصفقة، من بوابة معاناته الإنسانية عبر مشاريع تنموية عاجلة ممولة من جيوب الخليج العربي، على أمل أن يؤدي ذلك استراتيجيًا لحل الصراع؛ وهو ما بدى واضحًا من تصريحات المسؤولين الأمريكيين أنفسهم، ومن البيان الذي صدر عن البيت الأبيض في ختام اللقاء الذي جرى بين الفريق الأمريكي ورئيس حكومة الاحتلال نتنياهو، فقد أشار البيان إلى أن الأزمة الإنسانية في قطاع غزة كانت في صلب المحادثات.
على المستوى النظري، السلطة الفلسطينية ترفض الصفقة وتصفها بـ "مؤامرة تستهدف تصفية القضية"، ويرفض رئيسها أي لقاء مع الطرف الأمريكي. الوفد الأمريكي يتجاهل رفض السلطة الشكلي، ويعمل على وضعها تحت الأمر الواقع عبر تهيئة الأجواء وتذليل العقبات وإقناع الدول العربية الحليفة بأهميتها، الأمريكان يتحدثون علنًا عن تجاوز رفض السلطة، وعن مسعاهم للبحث عن بديل عبر مخاطبة الفلسطينيين مباشرة.
وهنا تظهر أهم عقبة في طريق الصفقة والكفيلة بجعلها مشلولة وحتى موتها ودفنها في المهد، لأنه بالفعل يعكس جهل وصلف إدارة ترامب وعدم دراية بحقيقة وبديهيات الصراع العربي - الإسرائيلي؛ إذ من غير الممكن إيجاد طرف فلسطيني يكون قادرًا على القفز عن الاستراتيجيات المعروفة فلسطينيًا وعربيًا منذ 1994 والقبول الفلسطيني على مضض بتسوية سياسية بحدها الأدنى: دولة فلسطينية في حدود الـ 67 (الضفة وغزة وعاصمتها القدس) وحل عادل لقضية اللاجئين، وأنه لا حل ولا نهاية للصراع بغير ذلك، وهو ما تمثل الخطة نقيضًا له تماما، فهي لا ترى في القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطينية، ولا تعتبر المستوطنات مقامة على أرض محتلة، وكل ما في جعبتها معالجات وحوافز اقتصادية وإنسانية لا تمت لقضية الدولة الفلسطينية بصلة.
كما لا ترى بقرارات الشرعية الدولية مستندًا أو مرجعية لحل الدولتين، وهي بذلك تتطابق تمامًا مع سياسة وبرنامج اليمين الإسرائيلي الحاكم، وتحقق حلم التيار الصهيوني لسنوات طويلة في سحق الشعب الفلسطيني ذرة إثر ذرة، كما يقول الكاتب الفلسطيني عودة بشارات "الفرد يتم فصله عن أخيه، الضفة إلى جهة وغزة إلى جهة، في الضفة: رام الله وحدها وجنين وحدها، وفي الشتات: الفلسطينيون في الأردن إلى جانب، وفي لبنان إلى جانب آخر"، ويقترح أن نغير اسمها بحيث يناسب الموقف، وأن نطلق عليها "الجريمة النهائية" أو "السحق النهائي" أو ربما كلاهما.
إن الخزي ليس فقط من نصيب من يعملون على تنفيذها، بل من نصيب كل العالم الذي يصمت، فهي بالفعل تمزق وحدة الشعب الفلسطيني. وحتى على صعيد الدول العربية التي تسعى واشنطن لمساعدتها في تمرير الصفقة، فإنه طالما رفض الفلسطينيون قبولها فلن يجرؤ طرف عربي - مهما امتلك قدرًا من الوقاحة - أن يطالب الفلسطيني بالتنازل عن حقوقه التاريخية وقضيته الوطنية والقبول بهذه المهزلة.
ثمة من يعتبر أن صفقة القرن هي ما يجري تنفيذه على الأرض صهيونيًا وأمريكيًا، بغض النظر عن الموقف الفلسطيني من عدمه: الاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة للدولة العبرية، ونقل السفارة الأمريكية، المسعى لتصفية قضية اللاجئين عبر إنهاء "الأونروا"، تعزيز الاستيطان، والسيطرة على مناطق (ج) والأغوار، وأن ما تبقى الآن هو "مرحلة غزة"، والجهود كلها منصبة لمعالجة هذه القضية. ورغم صحة ودقة هذا القول؛ إلا ان الموافقة والقبول بهذه الصفقة التي يجري تنفيذها شيء آخر، فطالما لم يوافق الفلسطينيون عليها فسيظل هذا عملًا في حكم الباطل، وسيظل الصراع موجودًا.
السبيل إلى رفض الصفقة وبقاء الإجراءات الصهيوأمريكية في حكم الباطل يتمثل بالعودة إلى المصالحة وطي صفحة الانقسام وإفشال المساعي للانفراد بالطرفين (حماس في غزة وفتح في رام الله) إلى مصيدة مفاوضات ومساومات لحلول ظاهرها اقتصادي انساني وباطنها تصفية القضية. لا يكفي السلطة ورئيسها محمود عباس ان يتحدث عن رفضه للصفقة، ويترك غزة تعاني الموت تاركًا لأعداء فلسطين التسرب من خلال هذه الثغرة؛ عليه بالدرجة الأولى، في ضوء إفشال سلطته لجهود المصالحة الأخيرة - إن كان جادًا في إفشال المخطط الأمريكي - أن يتحرك لإنقاذ غزة وإعادة وحدة الوطن، وعلى حماس ان تتجاوب بإيجابية مع كل خطوة جادة، وعلى باقي الفصائل والشعب أن يتحرك ويفرض المصالح الوطنية العليا فوق أي مصالح فئوية وحزبية.