لم تكن السياسة البريطانية الاستعمارية والاحتقارية لأهل فلسطين سوى جزء من كلٍ أعرض وهو المشروع الكولونيالي الكوني الذي انطلق من أوروبا لاحتلال مناطق وشعوب العالم المختلفة، تحت مُسوغات متناقضة من الحق الديني، أو حق التنوير الحداثي، أو مسوّغ التفوق العرقي، وهي نفس المسوّغات المُتناقضة التي استخدمتها الصهيونية أيضا تجاه فلسطين وأهلها.
فرغم الادعاء بأن الاستعمار إن هو إلا مهمة "إنسانية" يتصدى لها "الرجل الأبيض" لإنقاذ "الشعوب المتخلفة" من تخلفها، إلا أن حقيقة وجوهر الكولونيالية الغربية وأختها الصهيونية كانا مختلفين تماماً ولا علاقة لهما بذلك الادعاء.
لكن الكولونيالية الأوروبية سوّقت دعمها للصهيونية باعتبار هذه الأخيرة حاملة لمشروع "التنوير الغربي" في منطقة "مُتخلفة" ما زالت أسيرة حقب "ما قبل الحداثة".
وقد احتضن هيرتزل، وغيره من القادة الصهيونيين، ومنذ البدايات الأولى للصهيونية هذه الفكرة واعتقد أنها بالغة الفعالية في حشد التأييد الأوروبي لحركته، أي باعتبارها امتداداً للحداثة والتقدم الأوروبيين.
لكن في الجوهر كان الدين والادعاءات الدينية هي الحامل الرئيس للمشروع الصهيوني برمته.
اشتغل عليها الدين في قلب السيرورة الصهيونية وفي تناقض مباشر مع أي حداثة سياسية، ومن تجلياته الأساسية الإيمان بتفوق اليهود كجنس مميز وبكونهم في مرتبة عرقية أعلى من الأجناس الأخرى، وأن بقية الأجناس (الأغيار) إنما خلقوا لخدمة اليهود. تباينت تمثلاث هذه الفكرة على أرض الواقع وأخذت أشكالاً خفية بسبب عنصريتها الواضحة.
لكن رغم ذلك كان ذلك الجوهر العرقي والاحتقاري لبقية البشر سبباً رئيساً من الأسباب التي أدت بالجمعية العامة للأمم المتحدة لاستصدار قرار بغالبية كبيرة اعتبر الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية.
وثمة لائحة طويلة من السياسات والتصريحات والسلوكيات التي عبر عنها قادة صهاينة تجاه الفلسطينيين تعكس تلك العنصرية، منها اعتبار الفلسطينيين حيوانات وصراصير وأفاعي وغير ذلك، بل تحفل المناهج الإسرائيلية بأوصاف احتقارية وعنصرية ضد الفلسطينيين.
كما تعدت التصريحات العنصرية ضد الآخرين الفلسطينيين، فحديثاً وصف الحاخام الإسرائيلي الأكبر يتسحق يوسف السود الأميركان بأنهم قرود، كما أن المهاجرين السود في إسرائيل وصفوا على الدوام بأكثر الأوصاف عنصرية.
اشتغل الدين أيضا في خلفية النقاش حول مسألة "المواطنة في دولة إسرائيل".
وهنا وبحسب الادعاء الصهيوني المتكرر من أن "إسرائيل هي الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط" فمن المُفترض "ديموقراطياً وحداثياً" أن تكون إسرائيل دولة كل مواطنيها. لكن هذا وكما هو معروف غير مُتحقق عملياً على الإطلاق، بل مرفوض من ناحية نظرية أيضاً.
فـ "الدولة الإسرائيلية" تنطوي على نوعين من المواطنة: مواطنة الدرجة الأولى وهي الخاصة باليهود، ومواطنة الدرجة الثانية والتي يندرج تحتها غير اليهود.
والتجسيد لهذه العنصرية في المواطنة، وكما هو ماثل في سياسات وممارسات لا تُحصى تجاه فلسطينيي الداخل، لا يحتاج إلى كثير نقاش وإثبات نظراً لاتساعه وحضوره البارز على أرض الواقع.
لكن الجانب النظري الوقح لهذه العنصرية وسياساتها التمييزية صار يتبلور في خطاب رسمي لا يتردد في الإعلان عن قولبة تلك العنصرية في إطار "نموذج" نظري خاص بإسرائيل.
وفي سياق هذه القولبة نفهم تصريح وزيرة العدل الإسرائيلية إييليت شكيد من أن "الصهيونية يجب أن لا تواصل، وأقول إنها لن تواصل، قبول نظام الحقوق الفردية كما هو مُعبر عنه بالمفهوم الكوني".
وقبلها كان أرئيل شارون رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق وأحد أعلام اليمين الإسرائيلي قد تحدث بازدراء عن الديموقراطية في مقابلة مع صحيفة يديعوت قائلاً: "إن تعبيرات مثل "الديموقراطية" و"ديموقراطي" غائبة تماماً من إعلان الاستقلال (لإسرائيل)، وهذا ليس بصدفة.
وليس هناك حاجة للقول إن الغاية من الصهيونية لم تكن جلب الديموقراطية، بل كانت وبشكل حصري مدفوعة بإقامة دولة يهودية في أرض إسرائيل، تنتمي إلى كل الشعب اليهودي، وللشعب اليهودي فقط".
تشير هذه الأمثلة من التصريحات إلى رؤية راسخة ترى في الليبرالية والديموقراطية خطراً على الصهيونية ونقاء الدولة، كما تُعبر عن بنية عقلية ما قبل حداثية قروسطية مُتجذرة عملياً في الفكرة الصهيونية منذ التأسيس.
فما عبرت عنه الوزيرة المُناط بها تحقيق العدالة، وما عبر عنه رئيس وزراء سابق له جذوره القديمة في قلب تيار الصهيونية التنقيحية التي كان زئيف جابوتنسكي من أهم رموزها، والتي لم تؤمن إلا بالقوة وجبروت النخبة.
وتكفي الإشارة هنا إلى آبا أحيمئير، اليهودي الصهيوني الروسي الذي ولد في روسيا القيصرية العام 1896 وتوفي العام 1962 في تل أبيب، وكان مُقرباً من جابوتنسكي ويعتبر أحد المؤثرين الكبار في أفكار هذا التيار.
وكان أحيمئير قد تأثر بأفكار نيتشه التي تقدّس العظمة والقوة ولا تأبه بالجماهير، وهاجم "التربية الليبرالية التي تقود حسب رأيه إلى الانتحار ودعا إلى استبدال هذه التربية بأخرى استبدادية ... ورفض الديموقراطية والليبرالية باعتبارهما قوتين آفلتين، وهاجم المطالبة بحقوق زائدة للفرد".
ولم تكن أفكار أحيمئير، الذي كان يكتب مقالات في عشرينيات القرن الماضي تحت عنوان "يوميات فاشي"، هامشية بل أثرت كثيراً في مناحم بيغن وإسحق شامير اللذين أصبحا في أوقات لاحقة رئيسي وزراء.
وتأكيداً لمركزيته و"تقديراً" لتاريخه وأفكاره فقد جرى تكريمه عبر إطلاق اسمه على شوارع وساحات في 13 مدينة إسرائيلية، وأقيم متحف يحمل اسمه، كما نُظمت فعاليات في الذكرى الخمسين لوفاته شارك فيها بنيامين نتنياهو ورئيس الكنيست رؤوبين ريفلين (بحسب توم بيسح في مجلة "قضايا اسرائيلية"، عدد ربيع 2018).
وربما من أهم الوثائق الأولية التي التقطت الجوهر الرجعي والمعادي للحداثة السياسية في الصهيونية المذكرة التي قدمها إدوين صامويل مونتاغ، الوزير اليهودي الوحيد في الحكومة البريطانية والمسؤول عن شؤون الهند بين سنوات 1917 و1922، رافضاً تصريح بلفور وفكرة مساعدة اليهود في إقامة وطن قومي لهم في فلسطين.
في خضم مناقشة تصريح بلفور في أروقة الحكومة البريطانية قدم مونتاغ مذكرة شهيرة للحكومة ورد فيها ما يأتي: "... لا أعرف ماذا يتضمن هذا (الوطن القومي لليهود في فلسطين)، لكني افترض أنه يتطلب من المحمديين (المسلمين) والمسيحيين التنحي جانباً وإفساح المجال لليهود الذين سوف يخلفونهم في كل المواقع ويتميزون بعلاقتهم في فلسطين كما يتميز الانكليز في علاقتهم مع انكترا، أو الفرنسيون مع فرنسا، ويُعامل الأتراك والمحمديون الآخرون كأجانب في فلسطين بنفس الطريقة التي يعامل فيها اليهود في كل البلدان الأخرى ما عدا فلسطين. وربما سوف تُمنح المواطنة تبعاً لاعتبارات دينية. وإنني أشدد هنا على أربعة مبادئ:
• أؤكد أنه ليس هناك شعب يهودي Jewish nation. لا يمكن القول إن اليهودي الانكليزي واليهودي الموريسيكي (الإسباني) ينتميان إلى نفس الشعب إلا إذا قلنا إن المسيحي الانكليزي والمسيحي الفرنسي ينتميان إلى نفس الشعب.
• عندما يُقال لليهود إن فلسطين هي وطنهم القومي فإن كل بلد (في العالم) سوف يرغب على الفور في التخلص من مواطنيه اليهود، وسوف تجد في فلسطين مجموعة سكانية تطرد السكان الحاليين وتأخذ أفضل ما في البلد (فلسطين).
• إنني أنفي فكرة أن فلسطين مرتبطة اليوم باليهود أو اعتبارها المكان الملائم لهم للعيش فيها.
صحيح أن الوصايا العشر تنزلت على اليهود في سيناء، وأن فلسطين تلعب دوراً كبيراً في التاريخ اليهودي لكنها تلعب ذات الدور في التاريخ الحديث للمحمديين، وبعد زمن اليهود في فلسطين فإنها تلعب دوراً في التاريخ المسيحي كما لا يلعبه أي بلد من البلدان.
• (يتحدث مونتاغ عن النجاح النسبي والتدريجي في اندماج اليهود في أوروبا كمواطنين في دولها ثم يتابع قائلاً) ... لكن عندما يمتلك اليهودي وطناً قومياً فإن ما يترتب على ذلك هو مبررات حرماننا (كيهود) من حقوق المواطنة البريطانية سوف تزيد، ففلسطين ستصبح الغيتو العالمي (لليهود). لماذا (مثلاً) يمنح الروسي اليهودي حقوقاً كاملة، ووطنه القومي هو فلسطين؟
ثم يختم مونتاغ مذكرته بمناشدة الحكومة البريطانية عدم الخضوع لضغوط الحركة الصهيونية، ويقول: "إنني أشعر بأن الحكومة يُطلب منها أن تكون أداة لتنفيذ رغبات حركة صهيونية تدار بشكل عام، وحسب معلوماتي، عبر رجال من أصول أو أماكن ميلاد معادية، وهذا يعني توجيه ضربة قوية إلى الحريات، والموقع، وفرص الخدمة لليهود الآخرين المواطنين في بلدانهم.
إنني أقول لـ اللورد روتشيلد إن الحكومة مستعدة للقيام بكل ما في طاقتها من أجل تأمين الحرية الكاملة لليهود للاستيطان والحياة في فلسطين على قدم المساواة مع سكان ذلك البلد الذين يتبعون أديانا أخرى، ولكني أطلب من الحكومة أن لا تقوم بما هو أبعد من ذلك".
*كاتب وأكاديمي فلسطيني.