الذين راهنوا وتمنوا سقوطه وحشدوا كل أسلحتهم الدعائية والإعلامية على امل تحقيق هذه الرغبة التي لم يخفوها هم انفسهم الخاسرون، وصمتوا صباح يوم الاثنين صمت القبور، وكأن على رؤوسهم الطير كما يقال تعبيراً، عن الشعور بالصدمة وخيبة الأمل بل والهزيمة. فالسلطان لم يبقَ فقط ولكنه عاد بقوة اكبر مما كان، وكان هذا باعثاً على الإحباط. وبدا وكأنهم أطفؤوا الأضواء تحضيراً للاحتفالات والأقوال والتحليلات التي أعدت لإقامة الجنازة والشماتة بسقوط الرجل.
وقد كنا أيضاً هناك في جزء من الصورة والمشهد، ولكن في ظلال من الصمت لترقب نتائج الانتخابات الحاسمة والمصيرية، التي ما كانت لتحدد مصير تركيا ولكن بنفس القدر مصير المنطقة او ما يسمى الشرق الأوسط، أي هذا الجزء من العالم الذي يشبه منذ سنوات في تفجراته قِدْر النار الذي يغلي. وكنا هناك نضع ايدينا في صمت على قلوبنا ان يحفظ لنا انتصار الرجل، لئلا يؤدي خروجه الآن من المسرح فقدان هذا الوزن السياسي الذي يمثله في الدفاع عن القضية الفلسطينية.
ما حدث اذاً انه لمناسبة الانتخابات التركية الأخيرة التي شدت اليها اهتمام العالم، ان ما يجري في تركيا لم يعد شأناً محلياً او وطنياً، ولكن رجب طيب أردوغان وهذه مأثرته، نجح في غضون السنوات التي أمضاها وحزبه حزب العدالة والتنمية في حكم تركيا، في تحويل الحدث التركي الداخلي ولا سيما انتخابات الرئاسة الى ان تصبح كحدث عالمي، بنفس أهمية الانتخابات الأميركية او الفرنسية والبريطانية على سبيل المثال.
لكن الاستثناء في اطار هذه النظرة العالمية ان الرجل ليس مجرد رئيس دولة عادي او سياسي بالمعنى المهني او التقليدي، وإنما نحن بإزاء زعيم تاريخي وذلك على غرار تلك المجموعة النادرة في عصرنا، ممن يملكون هذه الزعامة الكاريزمية او القادة التاريخيين او صنو من كانوا يسمون في الأزمان القديمة الأبطال أي العظماء، وهم الزعماء او القادة الابطال الذين طالما اختلف الناس او انقسموا في مواقفهم او عواطفهم من حولهم.
وهكذا، فبقدر ما كرهه البعض حول العالم، بقدر ما احبه شعبه والرأي العام هنا في المنطقة العربية والشرق ونحن الفلسطينيين على وجه الخصوص، وهذه العاطفة الأخيرة لها رمزيتها ودلالتها في الإعجاب والتأييد الذي يحظى به هذا الزعيم التاريخي رجب طيب أردوغان، في التأييد الذي يحظى به خارج تركيا نفسها في أوساط المظلومين والمضطهدين حول العالم. تماماً مثلما كان جمال عبد الناصر وياسر عرفات وماوتسي تونغ وفيديل كاسترو يحظون بهذه الشعبية حول العالم من لدن الناس البسطاء، الذين نظروا اليهم، أي الى هذا النموذج من القادة والزعماء، باعتبارهم قادةً ملهمين عابرين للقوميات والأديان او الطوائف، وذلك ببساطة لأن رسالتهم كانت تتجاوز الحدود او الجغرافية، ومواقفهم كان لها هذا الصدى العالمي.
وهكذا لنغمض أعيننا لبرهة ونتخيل ما هو حجم الفراغ الذي كان سيتركه زعيم تركيا القوي، لو قدر أن يغيب او يخرج من المسرح العالمي في هذه الانتخابات الأخيرة ؟ والتي ظن البعض ممن يكرهونه انها سوف تكون نهايته الأخيرة والتي سار إليها بنفسه. ولأجل ذلك هم لم يكتفوا باستباق النتائج عبر هذا التشييع المبكر لجنازته، ولكنهم عملوا على التلاعب بالعملة التركية في ذروة التحضير للانتخابات من أجل إفشاله اقتصادياً. وهو من يعرفه شعبه والعالم انه صانع معجزة نهوض تركيا الاقتصادي، حتى أصبحت واحدة من العشرين الأوائل الأغنى في العالم، ولكن هذه اللعبة فشلت ولم تنطل على الأتراك.
ولنا ان نسأل اذن، نحن الفلسطينيين اللذين نعتبر انفسنا أيضاً الفائزين او المنتصرين في هذا الحدث التركي الداخلي، ولكن الحاسم في تداعياته وتأثيراته الخارجية، ومن بينها القضية الفلسطينية. من كان اذاً غيره هذا اللاعب الإقليمي والدولي الكبير بشخصيته ومصداقيته وثقل تركيا العظيمة سيقول للاحتلال الإسرائيلي وبنيامين نتنياهو في عينه ووجهه، إنكم إرهابيون وإن يديك يا نتنياهو ودولتك ملطختان بدماء الفلسطينيين، وان تركيا لن تسكت على أفعالكم؟، من الذي سيجرؤ على الكلام بهذا القدر من الوضوح وبهذا الصوت؟ وان يطرد سفير إسرائيل من انقرة ويتعمد إذلاله وإهانته، لكي يوصل رسالة واضحة للعالم ان لا تحترموا هؤلاء الممثلين للاحتلال الذين يظلمون أشقاءنا الفلسطينيين، وان يفضح أميركا علناً لدعمها إسرائيل.
وهذه مناسبة للقول انه بخلاف ما تحاول إسرائيل تشويه موقف الرجل على انه مجرد حليف لحركة حماس، وهو يقول علناً لأميركا ان «حماس» ليست حركة إرهابية. فان تركية وزعيمها في الواقع هم حلفاء للفلسطينيين جميعاً على اختلاف او تباين مكونات حركتهم التحررية، وليس كما تحاول إسرائيل اختزال او تقزيم هذا الموقف.
والواقع ان ما هو مهم ويكتسب دلالة تاريخية واستراتيجية انما يكمن في الإيحاء العظيم الذي ما برح يحاول رجب طيب أردوغان التعبير عنه وإظهاره دون الخجل من إخفائه، هو إعادة التذكير بمجد وعظمة الامبراطورية العثمانية وأسلافه السلاطين، الذين بفضل حكم هذه السلالة من القادة العظماء نعمت المنطقة العربية بأربعة قرون متواصلة من الاستقرار السياسي والهدوء والسلام الذي لم تعرف له مثيلاً من قبل. الا في عهدي الامبراطورية الإسلامية الأموية والخلفاء العباسيين الأوائل.
وبينما كانت المنطقة العربية تنعم بالاستقرار والسلام الداخلي، كان الغرب الأوروبي يرزح تحت الفوضى وحروب القرون الوسطى. وان هذا التذكير مهم لكيما ندرك عمق الصلة التاريخية بيننا وبين تركيا، بعدما أطاح أردوغان وهذه مأثرته الأخرى بمحاولة أتاتورك مؤسس الجمهورية التركية الأولى وخلفائه ممن يعتبرون انفسهم العلمانيين، اخراجَ او حرفَ تركيا عن هويتها العثمانية وفضائها الجغرافي السياسي، أي مجالها الحيوي وإضفاء التغريب عليها. وان واقع الحال عبر التاريخ ان الفتح العثماني الذي قاده السلطان سليم الأول عام 1516 في معركة مرج دابق، إنما كان امتداداً للفتح الإسلامي الأول لتثبيت وإعادة صياغة الهوية الثقافية الإسلامية والعربية للمنطقة.