لكي نستطيع المواجهة ...علي الجرباوي

الثلاثاء 26 يونيو 2018 02:53 م / بتوقيت القدس +2GMT
لكي نستطيع المواجهة ...علي الجرباوي



خلال حملته الانتخابية، أعلن دونالد ترامب مراراً أن موهبته في حياكة الصفقات تجعله الأكثر قدرة على حل الصراع في منطقة الشرق الأوسط، ووعد بمقاربة جديدة ومختلفة سيطلقها بعد الفوز تقود إلى ذلك. بعد فوزه، أوكل ترامب هذا الملف لفريق برئاسة صهره جيرالد كوشنير، معلناً أنه الوحيد الذي بإمكانه تحقيق الاختراق المطلوب، وبعضوية جيسون غرينبلات، المحامي المُختصّ بمجال العقارات والمسؤول السابق في مؤسسة ترامب، والذي أصبح مبعوث الرئيس للشرق الأوسط، وديفيد فريدمان، محامي ترامب بقضايا الإفلاس، والذي عُيّن سفيراً لأميركا لدى إسرائيل.
مع أن المكتوب كان يجب أن يُقرأ من عنوانه، فانحياز ترامب وفريقه لإسرائيل كان مُطبقاً وكاملاً، ولا يحتاج إلى أي استقصاء، إلا أنّ الجانب الفلسطيني هلّل وبجّل ترامب، ورحبّ بصهره ومبعوثه، وتفاءل بأن الرئيس وفريقه يملكان المقوّمات اللازمة لإحداث الاختراق الذي لم يسبقهم إليه أحد، مع الوعد بالتعاون الكامل. وشكّل هذا الموقف الرسمي الفلسطيني في حينه مفاجأة للمراقبين، كون الإشارات القادمة من واشنطن تجاه تل أبيب كانت بيّنة وواضحة.
لم يُعمّر التفاؤل الفلسطيني طويلاً. فقد نفّذ ترامب وعده الانتخابي بنقل سفارة بلاده إلى القدس، وبدأ بشّن حملة على حق العودة من خلال استهداف استمرارية وجود "الأونروا". وعندما بدأت ملامح من تفاصيل مشروع التسوية تتسرّب، وكانت أقل من الحدّ الأدنى الممكن القبول به فلسطينياً، انقلب الموقف الفلسطيني تجاه إدارة ترامب ومشروعه، من المباركة والتأييد المطلق، إلى القطيعة والممانعة الكاملة. وفي خطوةٍ استباقية ظنّها الجانب الفلسطيني كفيلة بقطع الطريق على هذا المشروع وإحباطه قبل أن يتم الإعلان أميركياً عن تفاصيله رسمياً، تم اتخاذ موقف رسمي فلسطيني بمعارضته، وإصدار "شهادة وفاة" فلسطينية له، واعتباره ميّتاً قبل أن يولد. وبشّر العديد من السياسيين الفلسطينيين بأن المشروع قد زال، والخطر قد فات.
من الملامح المُسرّبة عن هذا المشروع، كان الرفض الفلسطيني له مؤكداً. فهو أولاً، ومن الأساس، يحمل عنواناً مُريباً ومستفزاً ومُهيناً، إذ أُطلق عليه مصطلح "صفقة القرن"، وكأن موضوع الحقوق، والشرعية، والقانون الدولي، يمكن ضرب الحائط بها واختزالها بصفقة عقارية على أسس اقتصادية. وثانياً، لكونه مشرعاً إملائياً، سيتم عند الإعلان عنه فرضه كما هو، فإما القبول به أو رفضه، دون وجود إمكانية لإدخال أي تعديلات عليه. وثالثاً، لأن ما رشح من تفاصيله يدّل على أن التسوية التي يحملها هذا المشروع للفلسطينيين لن تُنتج لهم إنهاءً كاملاً للاحتلال، واستعداداً ناجزاً في دولة فلسطينية مستقلة وسيادية، وفقاً للأسس المتعارف عليها في حل الدولتين. 
ولكن خطوة الرفض الفلسطينية الاستباقية، مع أنها قد تكون كبحت سرعة الإعلان عن المشروع، وربما أدّت إلى إدخال تعديلات في مضامينه، وفي كيفية وآليات تطبيقه مستقبلاً، إلا أنها لم تصبه كما تمنى الفلسطينيون في مقتل. فالمشروع لم يَمُت كما يتم الإعلان فلسطينياً عن ذلك صباح مساء، والدليل ليس فقط استمرار الحراك الأميركي بشأنه، والذي تكثّف خلال زيارات لعواصم عربية عديدة مؤخراً، وإنما من خلال الشروع أيضاً باتخاذ خطوات إجرائية على الأرض، خصوصاً ما يتعلق بما يُسمى بـ "مشروع الإغاثة الإنساني لقطاع غزة". فمن ثنايا هذا المدخل الذي يستخدم معاناة غزة يتم الضغط على القيادة الفلسطينية لتغيير موقفها من "الصفقة" المرتقبة، وذلك بتسليط سيف فصل القطاع عن الضفة عليها. ناهيك عن أن الضغط يشمل العزل السياسي وتجفيف المساعدات المالية للسلطة الوطنية الفلسطينية، دفعاً باتجاه حدوث تحوّل سياسي لا يستند على تغيير الأشخاص فقط، بل التوجهات بالأساس.
في السياسة، يوجد فرق بين الرغبة والقدرة، ونحن في الكثير من الأحيان يختلط علينا الأمران، فنخلط بينهما، ما يُنتج التباساً بين الأماني والحقائق، فيصبح الوعي السياسي مبنيّاً على الوعظ بما يجب أن تكون عليه الحال، وليس بمواجهة حقائق هذه الحال، وتحليلها موضوعياً، ومواجهتها وفق ما تتطلبه من استعدادات وقرارات، وليس بالعواطف والتمنيات. لذلك لا يكفي استمرار الإعلان عن موت "صفقة القرن" للتخلص منها، بل يُفترض التحضير واتخاذ كافة الاستعدادات الدفاعية لمواجهة الهجوم الذي بدأ منذ فترة علينا. 
في هذا السياق، يجدر التنبّه إلى ثلاث قضايا أساسية سيكون لها الآن الأثر البالغ على مستقبل القضية الفلسطينية والمشروع الوطني الفلسطيني.
أولها، أن "مشروع سلام" إدارة ترامب عندما يُعلن، وبغضّ النظر عن متى يُعلن، سيُصبح المرجعية الجديدة لعملية التسوية السياسية في المنطقة، سواء تم قبولها والعمل بمقتضاها فوراً، أو تعثر تنفيذها الفوري وتأخر. سيَجُّب هذا المشروع ما قبله من أسس، وسيحتويها، ويقفز عنها، ليصبح مع مرور الوقت هو المشروع المتداول دولياً. على سبيل المثال، سيتم التعاطي مستقبلاً مع مفهوم "حل الدولتين" من خلال وداخل هذا المشروع، وليس من خارجه، فتصبح مضامينه وتفاصيله هي التنفيذ الفعلي لمفهوم "حل الدولتين". وإذا تابعنا توالي مشاريع التسوية والسلام التي طُرحت تباعاً خلال العقود الماضية نجد أن كل واحدٍ جديد حلّ محّل سابقه. المهم في الموضوع أن كل واحد من هذه المشاريع جاء بسقف أدنى من السقف الذي تضّمنه المشروع السابق له. 
أما القضية الثانية فهي ضرورة الانتباه والاعتراف بأن وضع النظامين، الدولي والإقليمي، قد تغيّر خلال العقود الثلاثة الماضية. لذلك فإن العقلية التي لا تزال تتصور العالم والإقليم على ما كان عليه حال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي يجب أن تواجه حقائق هذا التغير. لا يوجد في العالم حالياً القوة الموازية لأحادية القطبين الدولية، والتي يمكن أن يُرتكن عليها لمواجهة وتقييد حركة الولايات المتحدة الأميركية. التحالفات تغيّرت، المصالح تشابكت، في عالم اليوم، وبالتالي علينا معرفة كيفية نسج العلاقات الجديدة. أما بالنسبة للإقليم، فيجب الأخذ بالاعتبار أن التفكك وليس الوحدة هي السمة الغالبة على مكوناته اليوم، وأن الصراعات التي يشهدها، تجعل العَبَث في القضية الفلسطينية أمراً ممكناً. لقد أفقد الواقع الدولي والإقليمي الحالي الفلسطينيين حقهم المطلق في الاستخدام الحصري للفيتو حول قضيتهم. وهذا أمر يحتاج إلى كثير من الحرص والمعالجة لدرء المخاطر القادمة. 
أما القضية الثالثة، فهي تتمحور حول الوضع المأساوي لقطاع غزة، والذي يمكن النفاذ من خلاله دولياً وإقليمياً لإضعاف الموقف الفلسطيني في مواجهة "مشروع سلام" إدارة ترامب. الحقائق التي يجب أخذها بالاعتبار في هذه المسألة هي: أولاً، أن السلطة الوطنية الفلسطينية لا تسيطر على قطاع غزة، ولا تستطيع التحكم بمجريات ما يحدث فيه، وما يمكن أن يحدث هناك مستقبلاً. وثانياً، إن حركة "حماس"، المسيطر الفعلي على القطاع، هي حركة سياسية لها أهدافها ومصالحها، وستتصرف للحفاظ على نفسها وفقاً لذلك. وثالثاً، إن الوضع الإنساني في القطاع كارثي يُنذر بالانفجار، ورابعاً، إن المجتمع الدولي لا يريد هذا الانفجار، بل يريد احتواءه وتنفيس مصادر ضغطه بأسرع وأسهل طريقة ممكنة. لذلك لن تُشغل الأطراف الدولية نفسها بمحاولة إيجاد الحل للمسبّب الرئيس والمركزي لهذه الحالة المأساوية التي وصل إليها القطاع، أي إنهاء الاحتلال، وإنما ستتجه إلى ما يحقق رفع المعاناة وتخفيف الاحتقان الموجود حالياً، ومن ثم النظر إلى الأمور الأكثر جذرية لاحقاً. وهذا هو المدخل الذي ستستغله الإدارة الأمريكية لإدخال مشروعها بين شقوق معاناة القطاع. 

كيف السبيل لمواجهة كل ذلك؟
 أولاً، ضرورة الاعتراف بأن الوضع الذي نواجهه أعقد وأصعب من مجرد استمرار الإعلان عن وفاة "صفقة القرن". هذا الاعتراف ضروري وأساس للبدء في التفكير الجدّي بالكيفية التي يجب من خلالها مواجهة هذا الخطر الداهم. فالتصريحات والشعارات لن تؤدي الغرض، مهما ارتفعت حدة النبرة وصدى الخطابة.
وثانياً، لا يمكن لأي إمكانية نجاح أن تتوفر للفلسطينيين في مواجهة القادم من المخاطر والانقسام مستمر داخل النظام السياسي الفلسطيني، وبين الضفة وغزة. هذا أمر بديهي لا يحتاج إلى أي تحليل إضافي. الإمعان في الانقسام، وما يترتب عليه من إجراءات، هو خطأ وخطيئة، وسيكلفنا الغالي من الأثمان. لا نستطيع أن نطلب من أحد أن يساعدنا، إن لم نساعد أنفسنا. وكيف يمكن أن نساعد أنفسنا، ونحن نُمعن في تكريس الانقسام، ومن ثُم نحذّر من محاولات الغير لفصل الضفة عن القطاع؟!
وثالثاً، لن نستطيع استنهاض القوة الفلسطينية الذاتية طالما بقي النظام السياسي مُتكلساً ومحتَكراً، وطالما بقيت أدوات الفصل السياسي تابعة وغير مفعّلة، وطالما بقيت فئة الشباب، وتشكّل الأغلبية في المجتمع، مُهمشة ومُغيّبة. النظام السياسي الفلسطيني في وضعه الحالي هشّ ويحتاج إلى تمتين. هذا التمتين لن يتحقق بانطواء النظام على نفسه، إن كان في الضفة أو في غزة، ليحارب معركة مصيرية مع الخارج، وهو يواجه تململاً من الداخل. بالعكس، يجب أن يقّوي النظام نفسه من داخله، وهذا لن يتحقق إلا بالانفتاح على شرائح المجتمع المختلفة، والاهتمام باحتياجاتها، ليس المعيشية فقط، وإنما السياسية أيضاً. فالشعب يريد مشاركة سياسية حقيقية تنهي الاحتكار ومواطن الفساد. هكذا تتحصن الجبهة الداخلية، وتُغلق الشقوق على من يريد التسلل عبرها من الخارج.
الاستهداف الذي يواجهه المشروع الوطني الفلسطيني حالياً ليس سهلاً على الإطلاق، ولكن مجابهته ليست مستحيلة. المهم لتحقيق ذلك هو الانتقال من استمرار الإعراب عن الرغبة للولوج إلى بناء القدرة. 
الحالة مُلحّة لقرع الجرس.