فرض الحدث الفلسطيني نفسه، وما زال، على الساحة الدولية منذ الثلاثين من آذار.
للحدث في هذه الفترة، مكونان اساسيان :
المكون الاول: هو مسيرات العودة الكبرى في غزة بكل زخمها الجماهيري وسلميتها وبطولاتها والدماء والجراح الكثيرة التي تعمدت بها. اما المكون الثاني، فهو نقل السفارة الاميركية الى القدس.
والمكونان متلازمان متكاملان متداخلان ومتفاعلان.
الحدث بمكونيه بقدرما طرح على االساحة الدولية بقوة زائدة، نضال الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة، بالذات حقه في العودة وفي دولة مستقلة عاصمتها القدس، وبقدر ما عرض على الساحة الدولية، بشكل استثنائي وساطع الوضوح، عدوانية وفاشية ودموية وتوسعية دولة الاحتلال على خلفية واساس احتلالها واستمراره مفتوح الاجل، فانه في الوقت نفسه، وضع العالم مرة اخرى امام مسؤولياته في حماية الشعب الفلسطيني ووقف المذابح ضده ووقف الاعتداء على حقوقه واراضيه ومقدساته، وامام مسؤولياته في الدفاع عن قراراته المتكررة حول القضية الفلسطينية وحقوق اهلها، ناهيك عن تنفيذها.
المجتمع الدولي تفاعل مع الحدث الفسطيني بايجابية عالية، وتمثل ذلك في :
- مظاهرات ومسيرات تأييد عمت شوارع العديد من العواصم والمدن في اكثر من بلد، وبشكل لافت في عواصم ومدن دول اوروبية اساسية.
- دعوة مجلس الامن الى الانعقاد لاصدار بيان حول العدوان، لكن الولايات المتحدة منعت صدوره، ثم في تقديم مشروع قرار ليصدر عنه، وايضا اسقطته الولايات المتحدة .
- نجاح انعقاد مجلس حقوق الانسان التابع للامم المتحدة، واصداره قرارا بتشكيل لجنة تحقيق، تحقق بشكل عاجل في كافة الانتهاكات في الاراضي الفلسطينية المحتلة والتي ربما تصل الى حد ان تكون جرائم حرب، وتقدم توصيات باجراء المحاسبة بما في ذلك المسؤولية الجنائية الفردية والقيادية.
- انعقاد القمة الاستثنائية لمنظمة التعاون الاسلامي في استانبول بحضور 57 دولة يرأس عددا منها ملوكها او رؤساؤها. وكان من بين قراراتها: الدعوة الى توفير الحماية الدولية (للشعب الفلسطيني) من خلال ايفاد قوة دولية للحماية، ومنها رفض قرار الرئيس الاميركي الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال وادانة نقل وافتتاح السفارة في القدس، ومنها ايضا تاييد المبادرة السياسية التي عرضها الرئيس الفلسطيني امام مجلس الامن الدولي، وغيرها من القرارات.
- وتمثل بشكل خاص، في اجتماع مجلس جامعة الدول العربية على مستوى وزراء الخارجية. المجلس اكد الموقف الرسمي العربي بقرارت واضحة تشبه قرارات منظمة التعاون الاسلامي المشار اليها.
لكن اهم ماصدر عن الاجتماع وميزه كان قراره الذي اعاد " التأكيد على التمسك بحل الصراع العربي الإسـرائيلي وفق مبادرة السلام العربية بكافة عناصرها، والتي نصت على " أن السلام مع إسرائيل وتطبيع العلاقات معها، يجب أن يسبقه إنهاء احتلالهـا للأراضـي الفلـسطينية والعربية وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من حزيـران 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، واعترافها بدولة فلسطين" ... ونصت المبادرة، على "حق العودة والتعويض للاجئين الفلسطينيين، وحل قضيتهم بشكلٍ عادل وفق قرار الجمعية العامة للأمم المتحـدة رقـم 194".
تفاعل المجتمع الدولي وهيئاته مع الحدث بقدر ما هو ايجابي ومفيد ويمكن البناء والمراكمة عليه، الا ان المواقف التي اعلنها تبقى بدون اسنان تمكّن من الدفاع عنها وفرض تنفيذها. خصوصا وان العديد من هذه المواقف والقرارات هي في جوهرها وبشكل عام تشبه او تكرر، وربما لاكثر من مرة، قرارت ومواقف اتخذها المجتمع الدولي وهيئاته وتكتلاته ودوله ، ولم تجد طريقها للتنفيذ لاسباب تتعلق اساسا بالقوة وتوازناتها، كما تتعلق بسياسات وتحالفات ومصالح الدول النافذة في المجتمع الدولي.
مواقف وقرارت المجتمع الدولي خلت من اجراءات عملية مثل عقوبات محددة او مقاطعات في مجالات معينة اوغيرها وخلت حتى من التهديد بمثل تلك الاجراءات، وكأنها تعلن تلك القرارت والمواقف وتترك لمفهومية وضمير دولة الاحتلال العمل بها.
دولة الاحتلال تعودت على التعامل مع هذة القرارات والمواقف، بطريقة الرفض والتجاهل والاستخفاف، وبالعدوانية تجاه مؤيدي اصدارها. هذه الطريقة في التعامل تتكرس لدى دولة الاحتلال في هذه الايام بشكل اقوى واكثر رفضا وتجاهلا، مع درجة اعلى بكثيرمن الاستخفاف والوقاحة.
وذلك يعود بالاساس الى استقوائها بعلاقاتها غير المسبوقة مع الولايات المتحدة، وتوافق في رؤاهما ومواقفهما يصل حد التطابق.
من الانصاف في هذا المجال الاشارة الى مواقف قليلة كان لها اسنان، مثل استدعاء جنوب افريقيا سفيرها لدى دولة الاحتلال، ومثل ابعاد تركيا قنصل دولة الاحتلال والاعلان عن نيتها اعادة النظر في علاقاتها التجارية معها، ومثل فصل انجولا سفيرها لدى دولة الاحتلال لمشاركته في احتفال نقل السفارة، ومثل حظر اندونيسيا دخول مواطني دولة الاحتلال اراضيها، ومثل عشرات الدول التي رفضت مشاركة ممثليها الدبلوماسيين لدى دولة الاحتلال احتفال السفارة، و.....
ورغم ذلك، فإن مثل هذه المواقف تبقى في حدود متواضعة ومحدودة الفعل والتأثير سواء لجهة العدد أو لجهة عدم انتظامها في فعل جماعي. وان ايا من الدول، باستثناء ما تم ذكره على قلته، وبما فيها الدول العربية لم تقم، بالحد الادنى، باستدعاء سفرائها لدى الولايات المتحدة مثلا، ولو حتى للتشاور، احتجاجا على نقل سفارتها الى القدس.
قرار مجلس الجامعة العربية حول التمسك بالمبادرة العربية، يعتبر من المواقف ذات الاسنان، خصوصا انه يعيق الطريق امام التكهنات والتخوفات والشكوك التي تغذيها دولة الاحتلال وبعض حلفائها، حول مؤشرات لعلاقات قد تفسر بانها مقدمات للتطبيع في تجاوز لنصوص المبادرة العربية المذكورة.