أعلن الرئيس دونالد ترامب عن إنسحاب الولايات المتحدة من إتفاق 5+1 في الثامن من مايو / أيار الحالي، مع أن الدول الخمسة الأخرى عارضت هذا الإنسحاب: بريطانيا، فرنسا، المانيا، روسيا والصين، بالإضافة لإيران. وهو ما يشير إلى الرئيس الأميركي ينتهج سياسات إنعزالية، ومفصلة على مقاس دولة الإستعمار الإسرائيلية، مما سيضاعف من تراجع مكانة الولايات المتحدة الأميركية عالميا. لا سيما وانها لا تستطيع ان تحافظ على دورها الريادي، ولا حتى على مستوى التبادل الإقتصادي مع الدول الأخرى دون تعميق الشراكة معها، ولا يمكنها من مواءمة المواقف المتعلقة بالملفات السياسية الدولية بعيدا عنها، أو من خلال إدارة الظهر لها. لإن للقوة العسكرية والإقتصادية والسياسية حدود، أو بتعبير آخر حتى تتمكن دولة من الدول تعظيم قوتها ومكانتها في المشهد العالمي، يتحتم عليها تعزيز الشراكات مع الدول، أو على أقل تقدير المحافظة على تحالفاتها التاريخية.
لكن من يراقب سياسة الرئيس ترامب وفريقه المؤثر في صنع القرار، يلحظ انه يتجه لإنتهاج سياسات أقصوية وعدمية، تتناقض مع مصالح أميركا نفسها. فأولا أعلن الحرب على المسلمين في العالم وداخل الولايات المتحدة، وهو يعكس سياسة عنصرية فاقعة؛ وثانيا أعلن عن إلزام المكسيك ببناء جدار عازل بينها وبين أميركا، لكنها رفضت ذلك، لكنه فتح بوابة صراع مع دولة جارة؛ ثالثا إعلان الحرب على قانون التأمين الصحي "اوباما كير"؛ رابعا الإنسحاب من إتفاقية المناخ؛ خامسا التلويح برفع الضرائب على السلع الصينية، وفشل في ذلك؛ سادسا إعلان الحرب الإعلامية على كوريا الشمالية، ثم تراجع عنها، والآن يجري ترتيب اللقاء مع الرئيس الكوري الشمالي؛ سابعا الإعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وتلا ذلك الإعلان عن نقل السفارة إلى القدس العاصمة الفلسطينية الأبدية؛ ثامنا هدد بفرض الخوة على دول حلف الناتو، وخاصة الدول الأوروبية، مما ضعضع ركائز التحالف الإستراتيجي بين دول الغرب الرأسمالي؛ وأخيرا إعلان الإنسحاب من الإتفاق النووي الإيراني... وغيرها من القرارات الهوجاء والمتطيرة، التي تشي بأنه يخطف الولايات المتحدة نحو هاوية مجهولة النتائج.
أشار بعض المراقبين، ان ترامب ليس الرئيس الأول، الذي يلجأ للتطرف، فقد سبقه الريئس رونالد يغان، ولكن على ما حملته قضية حرب النجوم، وغيرها من القرارات الريغانية من طابع تصعيدي وتوتيري في المشهد العالمي، إلآ انها حافظت على لغة التوافق مع دول الإتحاد الأوروبي وغيرها من الحلفاء، ولم يلجأ لسياسة كيدية ضد من سبقوه من الرؤساء الأميركيين، وحرص على توجيه بوصلة سياساته ضد الإتحاد السوفييتي، ونجح في تدمير المعبد الشيوعي من داخله. وبالتالي هناك فارق كبير بين السياستين الترامبية والريغانية، لإن الترامبية تعمل بقصدية متغطرسة لعزل أميركا عن حلفائها، وعن دورها المركزي في صناعة السلام في العالم عموما وعلى المسار الفلسطيني الإسرائيلي خصوصا، والآن تنسحب وحيدة من إتفاق 5+1. هذة السياسة تحمل البعدين الشخصي والقومي، وهي لم تأت عن غباء، بغض النظر عن نتائجها السلبية أو الإيجابية، إن كان فيها ملمحا إيجابيا، بل عن وعي كامل بما يقرره الرئيس وفريقه المصغر، فهو أسير منطقه التجاري العقاري، ولعبة الصفقات تستهويه حتى الثمالة، أضف إلى انه رجل مغرور ومتغطرس، ويعتقد أنه يستطيع أن يفرض ما يشاء على العالم، ولهذا طرح من البداية شعاره "اميركا أولا". كما انه يخضع لمشيئة الخيار الإفنجليكاني المتصهين، الذي يعتقد ان اللحظة التاريخية حانت لتقريب "عودة المشيح"، الأمر الذي جعله يندفع بقوة وسرعة لخلق الشروط السياسية والأمنية لتقريب حرب ياجوج وماجوج، التي سيليها ظهور "المشيح".
إرتباطا بما تقدم، يمكن الإفتراض أن اسباب الإنسحاب من الإتفاق النووي تعود إلى: أولا خلط الأوراق في منطقة الشرق الأوسط في أكثر من ساحة؛ ثانيا الإستجابة لرغبات دولة الإستعمار الإسرائيلية، في إلغاء الإتفاق مع إيران ولو من جانب واحد. ولتطويق ترامب، قام نتنياهو بلعبته المكشوفة، والتي تشبه لعبة كولن باول، وزير جارجية أميركا عشية الحرب على العراق الشقيق 2003، حينما أعلن عن صور وهمية عن وجود اسلحة الدمار الشامل، لإنتزاع قرار أممي، وشن الحرب على العراق، وهو ما فعله رئيس حكومة إسرائيل، عندما عرض أن أجهزته الأمنية تمكنت من الإستيلاء على خمسين الف من الأشرطة، التي "تؤكد" أن إيران ماضية في خيارها النووي، وذلك لتسريع خطوة الرئيس الأميركي بالإنسحاب من الإتفاق، وهو ما حصل؛ ثالثا ذر الرماد في عيون بعض العرب، لإمتصاص أموالهم، مع ان الخطوة الترامبية لا تمت بصلة لمصالح دول الخليج العربي؛ رابعا من حيث يدري أو لا يدري جاء إنسحابه من الإتفاق بهدف التغطية على وعده المشؤوم بنقل السفارة الأميركية للقدس، وعلى الذكرى السبعين لنكبة الشعب العربي الفلسطيني.
وبعيدا عن حسابات الدول الصغيرة، وأجنداتها الضيقة، خطوة الرئيس ترامب، خطوة خطيرة، تهدد أمن الإقليم والعالم، خاصة وان الأقطاب الدولية بما فيها أقرب حلفاء أميركا بريطانيا على سبيل المثال ترفض الإنسحاب الأميركي. لإن المستهدف الرئيس من لعبة ترامب العرب وثرواتهم قبل إيران، وتصفية القضية الفلسطينية، وتعزيز مكانة دولة الإستعمار ألإسرائيلية على حساب كل دول الإقليم دون إستثناء.