شاءت الصدفة أن ألتقي بزميلة قديمة من أيام الدراسة الثانوية، وقد تعرفتها بصعوبة حين عرفتني بنفسها فنظرت لأجد أمامي امرأة فاقت عمرها بسنوات، فهناك تجاعيد تملأ وجهها وبشرة شاحبة تكسو محياها، أما يداها فكانتا جافتين ومشققتين، وشعرها يبدو قد غزاه الشيب وقد ظهر منبته من تحت غطاء رأسها والذي يبدو أنها قد لفته حول شعرها على عجل، وحين تبادلنا أخبارنا المشتركة والمتشابهة حول الأبناء والبنات سألتها عن شقيقة زوجها والتي كانت زميلتنا في نفس المدرسة ولم أتوقع أن ترد علي بقولها: مسكينة ... لم تتزوج حتى الآن.
في الحقيقة أنني كدت أقول لصديقتي القديمة بأننا أنا وهي المسكينتان والبائستان، بما آل إليه حالنا من تربية الأولاد ورعايتهم على مر الزمان حتى أصبحوا شباباً وشابات، وقد تفوقت علي صديقتي بعدد أولادها وبدت في وضع مادي متدهور وشرحت لي بشيء من الألم أن زوجها عاطل عن العمل وبأنها تعيل البيت من أهل الخير ومعونات أهلها وأهل زوجها.
بدوت في حالة فضول لأعرف أخبار شقيقة زوجها التي لم تتزوج وقد أصبحت في منتصف الأربعينيات من عمرها، وكنا قد تفرقنا منذ سنوات بعيدة، فبدأت صديقتي البائسة تحدثني عن نجاحها وتقدمها، فقد حققت ما لم أستطع أنا وصديقتي أم العيال تحقيقه، فهي قد حصلت على شهادة الماجستير ونالت وظيفة مرموقة براتب كبير، وتهتم بأناقتها وتتابع خطوط الموضة وتذهب في رحلات خارج الوطن لوحدها فتسافر في مهمة عمل أحياناً، وتسافر بهدف السياحة أحياناً أخرى، ولديها رصيدها المحترم في البنك كما أنها لا تتردد عن المشاركة في النشاطات الاجتماعية والإنسانية وتراها في المحافل التي تدعو لكي تشارك بها المرأة بوجه عام، ولا تعاني من أي أمراض ظاهرة أو باطنة وبشرتها خير دليل على ذلك بعكس ما تظهره بشرتي وبشرة صاحبتي أم العيال.
قررت أن التقي صديقتي التي لم تتزوج والتي وصفتها أم العيال بأنها مسكينة، فحصلت على موعد معها وسط أشغالها الكثيرة الممتعة والتي ليس بينها بالطبع كي أطنان من الملابس المكدسة، ولا إعداد المحشي بأنواعه وأشكاله، وحين جلست أمامي لم أعطها عمرها واعتقدت أن الزمن قد توقف بها حتى عمر العشرينات لأنها كانت نضرة ورشيقة ومنطلقة، وتتحرك كفراشة، وتنثني وتقف بخفة بعكسي على التمام، وسألتني فيما سألت عن اسم النادي الرياضي الذي أهتم بواسطته بلياقتي البدنية فتدلى فكي في بلاهة لأني لا أمتلك هذا الترف وسط مشاكل وهموم البيت والأولاد.
بعد أن انتهى لقائي بها حيث تركتني لأنها على موعد مع صديقاتها العازبات لكي يشاهدن فيلماً في السينما، ولأنها تعرف أني لا استطيع أن أتأخر عن البيت حتى وقت متأخر ولكنها لا تعرف أنني لم ادخل السينما منذ أن تزوجت وبأن الحياة طحنتني، وكدت أقول لها ما أقرأه دوماً على موقع " الفيس بوك" بأن الفتاة التي فاتها قطار الزواج أفضل حالاً من الفتاة التي داسها القطار وهرسها تحت عجلاته، ولكني كنت واثقة أنها مقتنعة بذلك وبأنها لا ترى نفسها قد خسرت شيئا كبيرا، فهي ترى كما حدثتني أن الزواج بالنسبة لها مشروع لم تدخل به، ولكنها دخلت في مشاريع أخرى منها العمل والتعليم والسفر والاهتمام بصحتها، ولأنها ترى أن اللواتي دخلن مشاريع الزواج لم يحققن النجاح الذي توقعنه، وغالبيتهن يعانين أو يكابرن، فهي لم تفكر لحظة بأنها قد خسرت شيئا كبيرا في حياة تضج بالنجاح.
صديقتي التي ليست مسكينة تفكر بأشياء كثيرة، صارحتني بمنطقها بأن الأولاد سيكبرون وسيتركون الأم وحيدة بعد أن تفقد صحتها وعافيتها وعمرها وشبابها، وهي ستبقى وحيدة ولكنها قد تحتفظ ببعض الصحة والعافية التي لم تهدرها في الهموم والمشاكل الأسرية والطبخ والنفخ، إضافة إلى أن لديها المال الذي سيختار لها شيخوخة مرفهة مع تطور خدمة المسنين ورعايتهم.
صديقتي ليست امرأة ناقصة ولكنها سارت في حياتها ولم توقفها في انتظار فرصة زواج، ولم تقتنص زوجاً لكي لا تحمل لقب عانس، وليست مسكينة ولا بائسة لأنها تعيش يومها، والحقيقة كل الحقيقة أنني لا أعيش يومي ولا أملك وقتي ولا أتمتع بأي شيء في حياتي لأنني قررت أن أصبح زوجة وأماً في وقت كان ما زال أمامي الكثير لأفعله قبل ذلك.