ما هي أوجه الشبه أو العلاقة بين دعوة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الى إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية في تركيا بعد نحو شهرين أي في شهر حزيران القادم، وبين دعوة الرئيس محمود عباس الى عقد اجتماع طارئ للمجلس الوطني الفلسطيني هكذا على عجل، بعد مضي 22 عاماً على عقد آخر اجتماع لهذا المجلس العام 1996 في غزة.
وقد يبدو هذا السؤال غريباً او غير مفهوم في دلالته للوهلة الأولى، ولكن لندع الجواب او نؤجله على هذا السؤال الى حين. أما الآن فلننظر الى أنفسنا لنرى الى الانتقادات او عبارات الاعتراض او الاستنكار والرفض التي وجهتها حركة حماس على سبيل المثال، وعدد من الفصائل الفلسطينية للمبادرة التي اقدم عليها الرئيس بعقد المجلس دونما انتظار لأخد موافقة الجميع على عقده في المكان والزمان.
تتفق المعارضة على القول ان المأخذ الأول على عقد هذا الاجتماع للمجلس الوطني، هو في "إصرار الرئيس غير المفهوم او المبرر على عقده في رام الله أي تحت حراب الاحتلال"، وانه كان يمكن أن يعقد في أي مكان آخر بعيداً عن سطوة الاحتلال المباشرة في أي دولة عربية أو حتى في غزة، اما الاعتراضات الأُخرى فان هذه الدعوة تخل او تتنكر لما تم الاتفاق عليه العام الماضي في بيروت من قبل اللجنة التحضيرية لفصائل العمل الفلسطيني.
وعليه، وهنا يتخذ الخطاب لغة تصاعدية بل وصدامية، حينما يقول اصحاب هذا الرأي او الموقف، ان هذا المجلس الذي يعقد يوم 30 نسيان في رام الله هو مجلس يفتقد الى الإجماع والتوافق، وبالتالي لا يمثلهم ولا يمثل الكل الفلسطيني. وانهم لن يعترفوا بالمخرجات التي سوف تصدر عنه، ويذهب البعض الى أبعد من ذلك في تفسير او تحليل الخطوة التي اقدم عليها الرئيس منفرداً، في التأكيد مرة أخرى على السياسة الانفرادية او التفرد التاريخي في سياسة فتح بالهيمنة على القرار الفلسطيني، وهو ما يشبه المرض المزمن.
وعند هذا المنحنى من النقاش فإن الرئيس أقدم على هذه الخطوة لأنه يريد إعادة تشكيل لجنة تنفيذية جديدة لمنظمة التحرير الفلسطينية تكون على مقاسه او مزاجه. أما الى أين يقود كل ذلك بحسب هذا الخطاب المعارض او التحليل، فليس سوى الى التمهيد للموافقة على صفقة القرن التي يطرحها الرئيس الأميركي دونالد ترامب. وإن ما يقوم به الرئيس من عقوبات جماعية وقطع لرواتب الموظفين في غزة بالتزامن مع هذه الخطوة، فانه يمثل طعنة للمقاومة الغزية التي تمثلها مسيرات العودة السلمية.
واستطراداً في السياق نفسه أي حول السجال الفلسطيني، فانه ما أشبه اليوم بالبارحة كما يقال، وحيث الحاضر لا يختلف كثيراً عن الماضي في هذه التقاليد، او لعله المرض الذي لازم الحركة الوطنية الفلسطينية في ميلهم الدائم او استعدادهم لهذا النوع من السجال، الذي هو أيضا يمكن لهم كما لأعدائهم الإسرائيليين المصابين به ان يفخروا أمام العالم، بمدى تمتعهم بحرية التعبير وممارسة الاختلاف، التي تقتصر فقط على تمتع الشعب والمجتمع بالديمقراطية، حتى لو كان ذلك وسط غابة من البنادق يملكها كل فصيل، كما كان عليه الحال في بيروت. ولطالما احب عرفات أن يفاخر بذلك.
وهكذا في زمن السبعينات والثمانينات ظلت الجبهة الشعبية التي كانت تتزعم فصائل المعارضة او ما سمي جبهة الرفض، تصف فتح وعرفات بالانحراف السياسي. أما الجبهة الديمقراطية وزعيمها نايف حواتمة أمد الله في عمره فإنه كان يميز موقف الجبهة الديمقراطية باعتباره البديل الثالث او الوسط أي الواقعي الثوري، الذي يتجاوز النهج الواقعي التفريطي لتيار فتح البراغماتي، ومن جهة أُخرى لا يقع في السياسات العدمية او المغامرة لجبهة الرفض.
لكن اليسار الفلسطيني الذي كان هو القوة المنافسة في العلاقات الفلسطينية الداخلية لحركة فتح، كان بالإجمال على استعداد للتوحد في معسكر واحد بعد الخروج من لبنان الى حد الذهاب الى الانقسام. وهي السنوات التي انحدر فيها الخطاب الإعلامي الى حدود تبدو ساذجة أحياناً وغير منطقية او مقبولة، بإسقاط قوالب ايديولوجية عنوة عليه اكثر من كونها تقدم فهماً واقعياً للممارسة السياسية التي كان يقوم بها عرفات. كان من شأنه ان يساعد على رفع مستوى الوعي الذاتي بالتحديات او الصعوبات والمخاطر الفعلية التي يتصارع معها الفلسطينيون. وهي مواقف اقل ما يقال عنها من منظار اليوم أنها كانت سطحية وعلى قدر كبير من مجافاة الواقع وحقائق لما كان يحدث.
هل وصلنا الآن الى الجواب على السؤال الذي طرحناه في المقدمة؟ وكان القصد الانطلاق منه كمثال توضيحي للمقاربة التي نحاول صياغتها وصولا للجواب، لماذا يفعل الرئيس ابو مازن ذلك ؟ بدلاً من هذا السيل من التراشق بالألفاظ والنعوت والاتهامات، دون محاولة فهم او ذكر السبب او الدافع الأساسي للخطوة التي اقدم عليها الرجل.
وقد استبق الرئيس أردوغان دعوته الى هذه الانتخابات العامة في تركيا بالتحذير من مخاوفه التي بدت مفاجئة، ان تركيا والمنطقة قد تتعرض للتقسيم انطلاقاً من العراق وسورية. وقال أردوغان الذي بدا متوجساً بل ومتخوفاً من شيء ما كبير وغامض قد تتعرض له تركيا، ان هذا الخطر أي الانقسام يفرض على تركيا تحديات غير مسبوقة، وإذن لماذا الانتخابات الآن؟ والجواب واضح من اجل التأكيد الداخلي على شرعيته وشرعية النظام الذي يمثله، لكي يمكنه مواجهة هذا التحدي بعد ذلك.
وهذه هي المسألة: لقد فشلت جميع محاولاته بل وحتى الضغوط غير الشعبوية التي مارسها لأجل تحقيق ما يسمى المصالحة واستعادة غزة تحت حكمه. وإزاء هذه النتيجة المتعثرة التي وصل اليها المشروع الوطني الذي هو ممثله الرسمي، والخوف الحقيقي او الهاجس الذي لا يفارقه من الشيء الغامض الذي يحضر لغزة بعيداً عنه. فما الذي يمكن ان يفعله او ما هي الخيارات التي تبقت أمامه لكي يفعلها ؟ حتى ولو من قبيل الذهاب الى هامش المناورة؟.
او ليس التأكيد مجدداً لكل من يعنيهم الأمر بانه هنا، ومن هذا المجلس تستمد الشرعية، شرعية النظام الفلسطيني، وان هذا النظام الذي يؤكد شرعيته إنما هو العنوان في كل ما يخص المصير الفلسطيني، وهذه هي المسألة ببساطة.
هل يشعر الرجل كما لو انه محشور في الزاوية ولم يبق أمامه خيار غير ذلك؟ والجواب نعم. ان أردوغان وعباس يشعران بثقل هذا الضغط ولكنهما يذهبان كلاهما الى هذا الخيار في التأكيد مجدداً على شرعية نظاميهما، انما فقط لمواصلة القتال وتحسين شروط استعدادهما لمواصلة هذا القتال على حد سواء.
اما المسألة الأُخرى فقد يمكن النظر الى كل ما قيل عن عقد المجلس باعتبارها أعراضاً جانبية لمأزق فلسطيني متبادل، لكن شيئاً واحداً لا يمكن الموافقة عليه وهو اتهام الرجل انه يمهد بهذا العمل للموافقة على صفقة القرن. إذا كان هو، وهذا يحسب له، لما أظهره من صلابة وعناد وشجاعة وحتى قوة لسان، وهو من وقف ضد تمرير هذه الصفقة وتمكن فعليا من كبح جماح الإدارة الأميركية في مواصلة طرحها.