رعبني جداً سكون قلمي لساعات، وتداخل الأفكار في رأسي بشكل مفاجئ، خفت أن أكون قد فقدت القدرة على البوح، خشيت انحباس الكلام في صدري، لكن تغريدة واحدة خارج السرب كفيلة أن تعيد البوصلة في معمعة النفس لتكتب مواقف كانت ولا زالت تترك السبخ على الروح، والقار على العقل.. مواقف الوجوه المخالفة لنوايا القلوب.
سألت ذاتي المرهقة، التي لا تغيب عنها دواعي الخير حتى في أحلك الظروف، وتعتريها الشوائب من حين لآخر، هل الضمير صديق؟ وبعد سجال طويل وتأمل في معناه الذي ورد في القرآن الكريم بالنفس اللوامة تيقنت أن الضمير قاضي يحرك الإنسانية في دواخلنا، وما بين الشد واللين والتفكير العميق في تصرفات البشر ومضامين الحقوق والحريات وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الخير في أمتي إلى يوم الدين)، وادعاء النفس البشرية أنها دائماً صاحبة الخيرية، واستقطاب الحق لصالحها بغض النظر عن مبررات الشر، راودني الشك والإحباط الذي جالسني طيلة هذه الليلة، وتساءلت : من الغادر فينا ومن المغدور ؟
في أي موقف تقابل فيه الحسنة بالسيئة، والمعروف بالإنكار، ولأن النفس تشتهي التقدير والاعتراف بالفضل، يبقى الإنسان يشتاق لضحكة مؤلمة تخدش قلبه الذي توقع عكس ما وجد وتبقى النية سيدة الموقف، ويبقى قول الرسول صلى الله عليه وسلم : (اصنع المعروف في أهله وفي غير أهله)، بوصلة الرضا.
وبعيداً عن كل المواقف المخطط لها والمحسوبة قبل بدئها، والمبيت فيها نية الغدر، أتساءل : لم ينكر طالب العلم أو من تمثل لاسمه فضل أستاذه؟ لم يحاول هذه الأيام أن يكون نداً له بعد تخرجه أو حصوله على ما كان يريد؟ ألهذا الحد أصبحت النفوس علية؟ والقلوب سجينة أهوائها ومطامعها الشخصية؟ لم يحاول أحد المفارقين بعد علاقة جميلة الانتقام؟ ألهذا الحد أصبح البعض يبرر الوسيلة لإثبات ذاته على حساب غيره؟ لماذا يشوه الناجح ويثبط ، لماذا تكثر أعداءه ويقل مناصريه؟ ألهذا الحد أصبحت النفس تأنف المنافسة؟ لماذا لا نفكر بالمصلحة العامة؟ وأن الخير في نجاح أحدهم لن يكون له وحده، فنجاحه على المدى البعيد سينعكس على الناس جميعا، لماذا ندير مؤسساتنا بالطابور الخامس، ونكون الشلل ( التكتلات) المشتركة لتحقيق مآرب ضيقة، ألهذا الحد أكلت الأنانية بذور قلوبنا ؟
وهنا يستحضرني قول غاندي : (الاختلاف في الرأي ينبغي ألا يؤدي إلى العداء، وإلا لكنت انا وزوجتي من ألد الأعداء) فما بالك لو كان العداء بعد فضل، أو عشرة أو مواقف جميلة، والفضل هنا ليس معروفاً فقط، فقد يكون شعور جميل كان أحدهم سببه، أو قضاء حاجة كان أحدهم سببها، أو منع ضرر كان أحدهم سبباً لوقوعه .
لماذا لا يكون التخالف تآلف، ولا يكون الفراق أخلاق؟ قد يقذفني أحد القراء بعبارة : أنت تتحدث عن المدينة الفاضلة، وأن ما يحدث الآن ما هو إلا نتيجة حتمية لغياب الضمير.. وأنا أوافقه الرأي فما صلح به أول هذه الأمة، لم يعد بيننا الآن، وأن ثقافة الاستحواذ والطمع غلبت كل شيء. لكن إن كان هذا كله، ولا نستطيع أن نعيد نسختنا الضائعة من الإنسان، فعلى الأقل إن أردنا أن نمنع الخير فلا نقدم الغدر والشر، وإن كانت نزعة الشر غالبة، فلا تزورها بملامح تدل على الخير، أي مستوى من الوقاحة وصل بنا الحال، نزين الباطل لتحقيق المصالح الشخصية، نستبيح سيرة الناس، ونشوه ونقذف من أجل منع الخير.
بعد كل هذا الصخب في داخلي، قررت أن أذهب في نزهة إلكترونية بين حقول الحسابات على الفيس بوك أجوب بينها كمتطفل أو متلصص، وبدأت أقرأ وأضحك وأشفق قليلاً، وأحزن كثيراً على أحوال الكثير ممن عرفت.. أضحك عندما ألمح التناقض بين الأقوال والأفعال، بين الحق والباطل، بين من يستحق ومن تسلق، وأحزن على من تلونت حياتهم بالسواد وأنا أولهم، بعدما قضم أصحاب الضمائر الميتة ملامح الفرح في سنوات عمرهم، ووضعوا المتاريس أمامهم وأقنعوهم أن أحلامهم قيد الصيانة، وورثوا الانطباعات بما سمعوا عنهم فقط.