حتى على وقع سماع طبول الحرب الإقليمية بل العالمية ربما التي تصم الآذان من حولنا انطلاقا من الأزمة السورية، فانهم يذهبون الى يوم الجمعة سيراً على إيقاعهم كما لو انهم غير مبالين لو ان هذه الحرب التي لا يزال كابوسها يحبس أنفاس العالم ان تقع امس او اليوم، من شأنها ان تسحب عنهم صدى الميديا الإعلامية، التي أظهرت في غضون هذه الثورة الغزية اهتماماً لافتاً وملحوظاً، وهو أيضا هذا الاهتمام أحد أهم أسلحتها او أدواتها في تحقيق أهدافها. لكن قدراً من الحظ الذي يرافق تذبذب تغريدات دونالد ترامب في شأن اتخاذ القرار النهائي ازاء هذه الحرب، انما أبعد مؤقتاً او لحظياً هذا التضارب بين الحدثين.
والى هذه الجمعة او الأسبوع الثالث من هذه الثورة التي ما زالت تقتصر على ما يمكن اعتباره او تسميته تجاوزا او رمزيا بحروب المدن والممالك، على مدى الخريطة الجغرافية بل الديمغرافية الفلسطينية، تعكس ما يتفق التحليل الفلسطيني والإسرائيلي على انها أربكت حكومة الاحتلال اليمينية المتطرفة، ووضعت هذا الاحتلال ومصيره في مأزق. اذا كانت هذه الثورة بأسلوبها الشعبي والسلمي تمثل بمثابة الضربة الفلسطينية الأخيرة في سياق زمني يمتد منذ خمسين عاما، في عملية متواصلة من التراكم لتقويض بل وافشال وهزيمة او دحر استراتيجية الاحتلال الإسرائيلي للأراضي والشعب الفلسطيني، وهو هدف كان يمكن في كل مرة استطاع فيها الفلسطينيون تغيير قواعد اللعبة التحقق من إنجازه.
ان إفشال استراتيجية العدو هو الهدف او المحك الرئيسي لمدى نجاعة المناورة التي نتبعها، وهي المهمة التي يتبعها عزله عن تحالفاته قبل ان يؤدي ذلك الى تفككه داخلياً.
لكن المأزق الذي واجهناه في الماضي وتواجهه الثورة الغزية الاخيرة في انطباق هذه النظرية او استراتيجية تحقيق النصر ثلاثية الأضلاع ضد الاحتلال، انما يظل في عدم قدرتنا اختراق الحماية او الغطاء الدبلوماسي السياسي الذي تقدمه دولة عظمى كالولايات المتحدة لإسرائيل، كما هو حاصل منذ العام 1967. وهو المأزق الذي وصفه الشاعر محمود درويش في قصيدته الملحمية الشهيرة «مديح الظل العالي» بعيد الحرب الفلسطينية الإسرائيلية الكبيرة العام 1982، على طريقة وأسلوب هوميروس شاعر الإغريق الشهير بقوله: «ان اميركا هي الطاعون والطاعون أميركا»، وهو مرض كان شائعاً في القرون القديمة.
ولكن اذ يبدو من تهديدات دونالد ترامب بالحرب على سورية، ان الرجل يحاول مرة أخرى استعادة دور أميركا كشرطي للعالم، بعد أن تخلى سلفه بحكمة وتعقل باراك أوباما عن هذا الدور، الذي أعلنت روسيا تهديدات غير مسبوقة بمواجهتها له. فلعله قد يحدث أخيراً اذا ما قدر لهذه المواجهة او الحرب ان تحدث، انها ستكون هذه المواجهة في الصراع على الشرق الأوسط، هي التجربة التي حذر منها السيد المسيح « لئلا تدخلوا فيها «. اذا كان الغرب الذي يصطف الآن في حلف عسكري لحسم هذا التوازن الدولي على الأراضي السورية، يخاطر جدياً بأن لا تكون المهمة هذه المرة كما حدث في العراق وليبيا، وتكون هذه هي الحرب لأول مرة الذي يقرر مصيرها الجزء الإلهي، وليس المحاكاة النظرية لها عن طريق أجهزة اللاب توب في غرف العمليات او التخطيط في مقر البنتاغون او البيت الأبيض.
واذا كانت إسرائيل غير العاقلة ابدا قد وضعت نفسها مسبقا كطرف شريك في هذه الحرب او الحلف، الذي يستعيد ذكرى مشاركتها في ما سمي العدوان الثلاثي على مصر عبد الناصر في ازمة السويس عام 1956. فاننا نقدر سلفا ان إسرائيل سوف تكون هي ميدان او ساحة او مرمى العمليات الحربية في هذه المواجهة الإقليمية الدولية الأكثر غموضا في تداعياتها او نتائجها، ولكن الأكثر اتساعاً وتشابكاً وامتداداً.
وكانوا أوضحوا ما يسمى محور المقاومة الذي يضم إيران وسورية وحزب الله، بعيد إسقاط الطائرة الإسرائيلية المقاتلة اف16 عبر الدفاعات الجوية السورية قبل شهرين، ان المعادلة تغيرت وان هذا الرد ينطوي على بعد استراتيجي منذ الآن.
ويبدو ان الكلام الذي سمعه السفير الإسرائيلي في موسكو، والذي تم استدعاؤه بعد ان عادت إسرائيل للإغارة هذه المرة على مطار تيفور العسكري السوري، هو تحذير او انذار روسي غير مسبوق لإسرائيل من انه لن يتم التهاون بعد الآن مع محاولات إسرائيل الاعتداء مرة اخرى على سورية. وكأن روسيا عبر موقفها هذا انها سوف ترد على أي ضربة أميركية وإسرائيلية، على ما تعتبره إخلالاً بالتوازن الاستراتيجي الذي أقامته عبر تحالفها الثلاثي مع إيران وتركيا في سورية. وتريد ان ترسم خطوطا على الرمال أمام أي محاولة تهديد او تغيير هذا التوازن الجديد.
وسوف نرى في مقبل الأيام القادمة نتيجة هذا السجال او الاشتباك الذي يرسم اصطفافا او استقطابا جديدا في هذا الصراع، الذي من المتوقع له أن يتجاوز حدود سورية ليشمل الإقليم كله، وفي القلب منه مصير القضية الفلسطينية باعتباره المتغير الاستراتيجي على أجندة البيئة الاستراتيجية للنزاع الفلسطيني العربي الإسرائيلي.
واذ استبق الرئيس الفلسطيني ابو مازن والفلسطينيين إجمالاً هذا المتغير الجديد بالمواجهة العلنية والمكشوفة مع الإدارة الأميركية، بعد ان أدرك الفلسطينيون ان أميركا هي العقبة الكأداء التي تحول دون ترجمة كفاحهم الى انجاز حاسم بانهاء الاحتلال، او اقناع اسرائيل تغيير موقفها. فان المواجهة الفلسطينية مع الإدارة الأميركية يمتحنها اختبارا او لنقل محطة حاسمة، تتمثل بالموقف العربي الجماعي والرسمي الذي يمكن ان تتخذه القمة العربية يوم غد في السعودية.
والقمة التي ستكون أمام اختبار مهم آخر في تحديد هذا الموقف العربي من الأزمة بين روسيا وأميركا، أو المخاطرة بالدخول كطرف في هذا الاستقطاب، التي تشير كل التوقعات او الاحتمالات انه سيكون الى جانب أميركا.
ان واقع الحال اليوم هو أننا نبلغ عتبة مفصلية في غضون الوقت أو المسافة الزمنية التي تفصلنا ربما عن يوم الخامس عشر من أيار ذكرى النكبة، اذا كان انفجار الشرق الأوسط المحتمل هو الذي سوف يعيد رسم خريطة التناقضات والصراعات كعالم ربما يعاد بناؤه.