لغز الحياة والموت (2-2)..عبد الغني سلامة

الأربعاء 11 أبريل 2018 11:11 ص / بتوقيت القدس +2GMT
لغز الحياة والموت (2-2)..عبد الغني سلامة



منذ أقدم الأزمان، والخلود هاجس الإنسان وقلقِه، وغايته التي لا تُدرك، وأمنيته العصيّة على التحقيق، وقد ظلَّ الإنسان رافضاً لفكرة الموت والفناء، مدفوعا بغريزة البقاء، أو بنرجسيته التي طالما صوّرته مختلفا من بقية المخلوقات ومتعاليا عليها؛ فعندما كان يرى غيره يموت ويذوي ويتحلل في نظام الطبيعة، اخترع لنفسه أسطورة الخلود، والحياة ما بعد الموت، وابتكر فنون التحنيط، ودفْن الميت بأبهى صورة مع مقتنياته الشخصية التي سيحتاجها في الدار الآخرة.
كما لجأ للتكاثر والإنجاب، وتمديد حياته عبر أبنائه، الذين سيحملون نفس الاسم، أو لتخليد ذكراه عبر عمل فني، أو بناءٍ ضخم، أو مشروع مبهر.. (وتحديدا الذكور)، ومع ذلك، أخفق تماما في الخلود.. كما نجد ذلك بوضوح في ملحمة «كلكامش»، أول وأجمل نص بشري إبداعي، صور رحلة البحث عن الخلود.
الإنسان بكل جبروته وذكائه وكبريائه قد يموت في أي لحظة، ولأتفه الأسباب، وأحيانا بلا ثمن وبدون مقدمات، فجأة يتحول كل هذا الكيان الممتلئ بالحيوية والطاقة إلى جثة هامدة، باردة، سيرغب أقرب الناس لصاحِبها أن يواريها الثرى بأسرع وقت، ليدفن معها كل ما صاحَبها من شغب وصخب، ومن أحلام ومخاوف، ومن قدرات لا حد لها.. ليصير مجرد ذكرى، ثم لا يُذكر.. وهكذا، وبكل سهولة، وفي بضع سنين، سيتحول هذا الجسد إلى سماد للأرض، سيجد طريقه إلى شجرة مدت جذورها بالقرب منه، لتأخذ جزيئاته المتحللة إلى أوراقها وثمارها، ليتغذى عليها مخلوق آخر، أو تتحول إلى حطب يحرقه شخص ما ليتدفأ عليه.. أو تستعير ما تبقى منه كائناتٌ أخرى، لتبني بها أجسامها. 
تلك هي دورة الطبيعة التي بدأت بغبار النجوم، ثم تناثرت في عموم الكون، حتى وصلت أرضنا، وصنعت منها المواد الحية والميتة، وكانت الحل الأمثل للبيئة، فخلّصت الأرضَ من ملايين الجثث، لتنبت على أنقاضها ما لا حصر له من كائنات. فكل ذرة من أجسامنا وُلدت في نجمة ما ذات يوم، ثم مرت عبر كائنات لا حصر لها حتى انتهت إلينا. 
تولد الحياة من رحم الموت.. في الطبيعة، تنبثق الحياة في أقسى الظروف؛ العشب ينبت من بين مفاصل الصخر، في قاع البحار ستجد أسماكًا عرفت كيف تتكيف مع العتمة، وبين كثبان الرمل في الصحارى القاحلة ستجد عضيات تنتـظر المطر سنوات، وعلى قمم الجبال سترى نسرًا عائدًا إلى عشه وفي فمه عشاء لفراخه، إنه صراع البقاء المرير حيث شق الإنسان طريقه ليصبح سيد الكائنات.. البشر الذين سكنوا كل مكان؛ في الأسكيمو، في الغابات المطيرة والصحارى الحارة والجزر المعزولة في قلب المحيطات، وفي أكواخ الصفيح، وبيوت الطين، وفي المقابر، وتحت الجسور.. تشبث بالحياة مهما كان نوعها.
ومقابل التشبث بالحياة، أحيانا، قد يرغب البعض بإنهاء حياته بنفسه، لأسباب عديدة، لا أدري، هل تلك شجاعة لمواجهة الموت؟ أم جُبنٌ من مواجهة الحياة؟ ذلك سؤال إشكالي.. وهناك المضحون بأنفسهم لغايات نبيلة.. أما من يفجّرون أنفسهم في الأماكن العامة، فلا أريد الحديث عنهم هنا.. وأحيانا، قد يتعب المرء من الحياة وشقائها.. أو من مرضٍ مزمن لا يُرجى شفاؤه.. فيرغب بالموت، ليستريح، ويريح.. ربما وحدها سويسرا من تسمح بِـ «الموت الرحيم»..   
الموت يقسّم الكائنات إلى أحياء وأموات، والحياة تقسّم نفسها إلى مراحل متداخلة تفصلها خيوط وهمية، والذي يحدد اللحظة ونوعيتها هو شعورنا، إحساسنا تجاه ذاتنا وتجاه الوقت؛ نحنُّ إلى الماضي أو نهرب منه، نرفض الحاضر أو نرضخ له، ونخاف من المستقبل أو نتوق له، فإحساسنا ونبضنا هو الذي يعطينا زمننا الحقيقي المعاش، فنجعله ينساب بكل رقة، أو يمر بطيئا ثقيلا، بينما تواصل عقارب الساعة مسيرتها الرتيبة التي لم تتوقف لحظة منذ بدء الكون.
إذا، وعْينا هو الذي يحدد نوعية الحياة؛ الحب يمنحها قيمتها ومعناها، وبالحب يكتشف الإنسان أنه ليس مجرد ذَكر أو أنثى تعتريه رغبة وشهوة، سيكتشف بالحب أن له اسما وكيانا وحياة، وأن شريكه الذي أَحبّه له اسم أيضا، ولا يمكن أن يستبدله بآخر، وعندما يعثر أحدنا على شريكه، ويحبّه سيوْلد من جديد.. الحب هو تشبث بالحياة، ومحاولة لتمريرها للأجيال القادمة، وتهريبها من حواجز الموت عبر بطون الأمهات.
الموت كما هو الجنس، بطل الحياة ولاعبها الأساسي، وهو كامن في كل شيء: في أعماق وعينا، وفي اللاشعور، وماثلٌ بكل حضوره الرهيب في قيمنا ودوافعنا وتصرفاتنا: الشجاعة تكمن قيمتها في كونها تتحدى الموت.. الإصرار بحد ذاته وقوف في وجه الموت.. الأمل هو مقاومة للموت.. فلسفة الحياة هي تحايل على الموت.. الدين في إحدى معانيه محاولة لبث الطمأنينة في النفوس الخائفة من الموت، وتعويضها بالحياة الآخرة.. الفن محاولة للخلود ورفض لفكرة الموت، من خلال قصيدة أو أغنية أو لوحة تخلد صاحبها على مدى الأزمان.. الفن في لحظة الإلهام يفتح نوافذ مداركنا على تصوير جديد ومختلف للدنيا وللحياة؛ فنراها من خلال أغنية، أو رسمة، أو لوحة راقصة، أو عمل إبداعي. 
التأمل يساعدنا على اكتشاف العالم في لحظات التجلي والصفاء الذهني، فنعيد رسمه على أسس جديدة بمحتواه الإنساني الأرقى والأشمل. 
العمل والبحث والإنجاز والمغامرة والنجاح والفشل.. جميعها تبهرنا، وأحيانا تصدمنا، ولكنها في كل مرة تُخرجنا من الإيقاع الممل والمكرر للحياة، لتعطيها طعما مختلفا.
ولكن الموت البيولوجي ليس هو الشكل الوحيد للموت.. يموت الإنسان إذا تقوقع وانطوى على ذاته، ويموت إذا جعل شهواته تطبق عليه في سجن الغرائز، وإذا ذاب في المجتمع وخضع لنظامه كما تخضع الشاة للقطيع، ويموت إذا خسر حريته، أو خبَتْ عزيمته، أو تخلى عن كرامته. وأيضا تموت الذكريات البعيدة، الصداقات، المفاهيم والقيم الاجتماعية، لتحل محلها مفاهيم جديدة، وصداقات أُخرى.
إن أكبر ما يصيب الإنسان ويؤدي به إلى الموت يأتيه من داخله. ومع ذلك: كثيرا ما يموت بفعل عوامل خارجية لا دخل له بها، وكذلك تنهار المجتمعات من داخلها.
التحدي الأكبر، هو أن نكون أقوى من عذاباتنا، وأن نتعايش مع أحزاننا، أو نتجاوزها.. لننطلق في دروب الحياة.
ومع كل ما قيل وكُتب عن الحياة والموت، يبقى لغزهما، اللغز الأكثر غموضا.. والأكثر بساطة.. فعلى هذي الأرض ما يستحق الحياة.