فكرة شبابية خالصة، خرجت من رحم المعاناة، وتفجرت من آهات الحاضر، ورسمت آمال المستقبل، قبل أشهر معدودات تداعى مجموعة من الشباب المثقف الواع إلى فكرة إبداعية رائدة بعد أن جربت قيادة الشعب الفلسطيني العديد من الخيارات السياسية والعسكرية من أجل تحقيق أهداف الشعب الفلسطيني وطموحاته، وفي ظل انسداد أفق القضية الفلسطينية على المستوى الدولي والاقليمي والمحلي، انطلقت حناجر هؤلاء الشباب بضرورة الطرق على جدار الخزان من خلال مسيرة العودة الكبرى السلمية، لإسماع العالم آهات الشعب الفلسطيني وحقوقه التي غابت عن المنابر الدولية والإعلامية منذ فترة ليست بالقصيرة.
وفعلا اجتمع الشباب الفلسطيني من غزة وتركيا وأوروبا وماليزيا ولبنان ومناطق أخرى تحت مظلة أطلقوا عليها اللجنة التنسيقية الدولية لمسيرة العودة الكبرى، وبعد أن اتفقوا على الفكرة وأهدافها وصورها السلمية انطلقوا لتسويقها بين الفصائل الفلسطينية الوازنة، والنقابات المهنية، والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية، فتشكلت الجبهة الوطنية العليا لمسيرة العودة الكبرى، وانطلق قطار العمل الجماعي السلمي.
وبعد سبعين عاما من اللجوء والمعاناة التف الشعب الفلسطيني بأطيافه المختلفة حول هذه الفكرة الرائدة، وغلّب مصلحة الوطن على التفاصيل الضيقة، فتدفق الناس في 30 آذار 2018 نحو الحدود الشرقية لقطاع غزة كالسيل العارم، في صورة أبهرت العالم، رغم محاولات العدو المضنية لإجهاض هذا الحراك السلمي بالوسائل كافة.
وفعلا طُرق جدار الخزان من خلال الأعداد الغفيرة التي خرجت في يوم الأرض لتؤكد على حقها في العودة إلى قراها ومدنها المسلوبة، ومن خلال انتهاكات الجيش الإسرائيلي الذي قام بقتل أكثر من خمسة عشرة شخصا، وجرح أكثر من 1400 مدنيا، كانوا قد أعلنوا للعالم أجمع أنهم سيحتشدوا؛ ليحيوا بسلام دون إيذاء الآخرين، إلا أن الجيش الصهيوني وبأوامر من قيادته خالف الأعراف الأخلاقية، والقوانين الدولية التي تنص بوضوح في اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949م على وجوب حماية المدنين تحت الاحتلال.
ومن سوء حظ الاحتلال أنَّ انتهاكاته الإجرامية وُثقت بالصوت والصورة، وانتشرت في وسائل الإعلام الغربية كالنار في الهشيم، وخصوصا فيديو قتل الشهيد البطل عبد الفتاح عبد النبي الذي صُور من اتجاهات عدة، مما سبب إحراجا كبيرا لهذه الدولة التي تدعي الأخلاق والديمقراطية.
هذه الاختراقات الكبيرة التي أحدثتها مسيرة العودة الكبرى، سواء على صعيد الإعلام الدولي أو على صعيد الملف السياسي بمستوياته المختلفة، يحتاج من أصحاب الفكر والميدان أن يكونوا بحجم الحدث الكبير الذي أصبح ملء سمع العالم وبصره.
لذلك طرح الكثير من أصحاب الرأي والتأثير سؤالا مهما مفاده، أين يركض الشجعان بعد طرق جدار الخزان؟
أعتقد أننا بحاجة إلى مجموعة من الاجراءات العملية التي تُحافظ على نجاحنا الكبير، وتستثمر إمكانياتنا في الاتجاه الصحيح، أبرزها ما يلي:
أولاً: قيادة ميدانية حكيمة، تُبادر بالأفكار التي تحقق أهداف المسيرة، ووسائلها السلمية، وتعمل ليل نهار من أجل مصلحة الحراك الشعبي من خلال التقييم المستمر، والمرونة العالية، التي تحفظ المسيرة من أن تنحرف نحو مسارات العدو وخططه الماكرة.
ثانياً: المحافظة على شكل ومضمون المسيرة الوطنية الجامعة للكل الفلسطيني، وألا يتصدر مسيرة العودة الكبرى أي شخصية قيادية معروفة ببعدها العسكري، أو فصيل فلسطيني مناضل، حتى لا نقدم الذرائع الإعلامية والقانونية للاحتلال الصهيوني، الذي يجيد قلب الحقائق وتزويرها.
ثالثاً: إعداد برنامج ثقافي، رياضي، اجتماعي، تدريبي واضح، من أجل استثمار أوقات الشباب المتواجدة في منطقة السلك الفاصل، وتوضيح فكرة مسيرة العودة الكبرى التي تدعو إلى الحياة الكريمة، لا إلى الموت الشنيع، وذلك من خلال الدورات التدريبية، وعروض المسرح القصيرة، والإعلام، وغيرها من الوسائل المتاحة.
رابعاً: تشكيل لجان من الضبط الميداني أو من عناصر الكشافة القادرة على منع الشباب المتحمس من الاقتراب كثيرا من السلك الفاصل، أو استفزاز جيش الاحتلال الذي يقصد رفع فاتورة الحراك السلمي لإجهاضه من خلال الصدمة التي تجعل بعض الناس أن يتردد في المشاركة والحشد.
خامساً: تشكيل لجنة إعلامية قادرة على مخاطبة المجتمع الغربي، والعربي بالطريقة التي يفهمها، وبالثقافة التي تمكنه من فهم حقوق الشعب الفلسطيني وحراكه السلمي، وقادرة على رد الافتراءات الصهيونية التي تستخدمها من خلال ماكينتها الإعلامية المحترفة.
سادساً: استثمار جميع انتهاكات جيش الاحتلال بحق المدنيين، بحيث يتم توثيقها قانونيا وتقديمها لكافة المؤسسات الدولية، والقانونية، وذلك من خلال فريق قانوني محترف، سيما وأنَّ قانون الأمم المتحدة 194 فقرة 11 يقضي بوجوب رجوع اللاجئين الفلسطينيين إلى مدنهم وقراهم في أقرب وقت ممكن.
سابعاً: التنسيق مع الساحات الفلسطينية الأخرى وخصوصا الضفة الغربية والقدس ومناطق ال٤٨، وجميع دول العالم وأحراره من أجل مساندة قطاع غزة بالمسيرات السلمية، والفعاليات المختلفة التي من شأنها تحقيق حقوق الشعب الفلسطيني وطموحاته المشروعة.
ثامناً: ضرورة حفظ الجبهة الداخلية من الإشاعات اللفظية، والإجراءات الإجرامية، خصوصاً وأنَّ الفكرة أصبح عليها إجماعا وطنيا عارما، وعدم الانجرار خلف استفزازات الجيش الصهيوني الذي قد يسعى في الأيام المقبلة إلى تسخين بعض المناطق لجر المقاومة المسلحة نحو مواجهة معينة.