لم يكن مارك زوكربيرغ الرئيس التنفيذي لشركة فيس بوك وهو يوقع صفقة شراء شركة (واتس أب) مع مؤسسها ورئيسها التنفيذي (جان كوم) عام 2014 بما قيمته 19 مليار دولار، متهوراً أو سيئ التقدير، وإنما كان يعرف تمام المعرفة مدى ما ستحققه هذه الصفقة من أرباح رغم ضخامة الثمن المدفوع، حيث كان عدد مستخدمي (واتس أب) في ذلك الحين 450 مليون مستخدِم نَشِط.
اذاً، ما هي هذه السلعة التي تستحق ذلك الثمن الباهظ؟ إنها ببساطة سلعة «البيانات» ذلك الكنز الذي اثبت الواقع انه يتيح لمن يملكه إضافةً الى الثروة الهائلة، آلياتٍ ووسائلَ في التأثير سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.
نعم، انه عصر القوة الناتجة عن حيازة المعلومة، ولكن هل تكفي مجرد الحيازة لمنح القوة؟ الجواب (ليس بالضرورة) وانما الأهم وجود القدرة على تحليل المعلومة ومن ثم استغلالها بالقدر اللازم وبما يخدم مصلحة مالكها. ومن هنا نشأت الشركات المتخصصة بتحليل الـ (DATA) لتصبح بالشكل القابل للاستفادة منه واستغلالها لصالح أطراف معينة كالحكومات والأحزاب والمجموعات وغيرها. وهذا ما يؤكد صحة العبارة المنسوبة لـ (بيل غيتس) التي راجت أخيراً في أوساط خبراء مواقع التواصل والتي تقول إن (المحتوى هو الملِك).
في بدايات انطلاق موقع فيس بوك، كان الهدف المعلَن وربما كان هو الهدف الحقيقي بالفعل في ذلك الحين، ربط الناس بعضهم ببعض وبناء مجتمع افتراضي عالمي يُسهم في تقريب الناس والمجتمعات بعضها من بعض، وهو بلا شك هدف نبيل وعظيم، الا إنه وللأسف، مع تضخم مستخدِمي الموقع ليصل الى أكثر من مليار مستخدم فعّال، سال لعاب الشركات العملاقة أمام هذا العدد الهائل من الأفراد والمتواجدين في موقع واحد لإيصال إعلاناتها وترويج بضاعتها، خاصةً وان بإمكان الشركة صاحبة الإعلان اختيار الشرائح المستهدَفة من المستهلِكين الذين يهتمون بسلع او منتجات معينة، بناء على بياناتهم المدونة في مواقع التواصل. فتستطيع شركات السيارات مثلا توجيه إعلاناتها للمهتمين بالسيارات والشيء ذاته ينطبق على باقي الشركات، لتدور عجلة المال بين مُعلِن يجني أرباحاً جراء ترويجه وناشرٍ يجني أرباحه ممن أعلن عنده. وهنا أصبح من الصعوبة بمكان على «امبراطورية» الكائن الأزرق إقناع مستخدميها بشعارها وهو تكوين مجتمع افتراضي يربط الناس بعضهم ببعض، فبدأ يخبو هذا الشعار الجميل أمام لمعان المال وجني الأرباح.
لم تقتصر أهمية بيانات المستخدِمين على الجانب التجاري والترويجي وإنما تعدت ذلك الى تأثيرها في الجانب السياسي وصناعة الرأي العام.
فقد مثل موقع فيس بوك (الى جانب مواقع أُخرى بالطبع) مصدراً أساسياً لشركة (كامبريدج أنالاتيكا) وهي فرع أميركي لشركة (أس سي أل سوشيال ليمتد) البريطانية والتي تقدم خدمات للأحزاب السياسية في الحملات الانتخابية واستطلاعات الرأي. وقد كشفت التحقيقات الجارية الآن في الولايات المتحدة ان الشركة متورطة بتقديم مثل هذه الخدمة للتأثير على الناخب الأميركي في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وذلك بعد أن حصلت الشركة - وفق صحف أميركية وبريطانية على بيانات ما يزيد على 50 مليون مستخدِم فيسبوكي بطريقة غير شرعية لتحليل توجهات الناخبين الأميركيين، ساعيةً إلى توجيه الناخب عبر نشر أخبار مضلِّلة لتفضيل مرشح على آخر، وكان المقصود بالطبع ترجيح كفة ترامب على منافسته كلينتون.
ولم تقف ممارسات الشركة عند هذا الحد، بل وصل الأمر وفق اعترافات رئيسها التنفيذي (ألكسندر نيكس) بممارسة «أساليب مخادِعة غير أخلاقية قامت بها الشركة لصالح عملائها». أما القشة التي قصمت ظهر البعير فهو ذلك الفيديو الذي ظهر فيه ممثلو الشركة متفاخرين باستخدام الرشاوى من أجل التأثير على الانتخابات، بل أكثر من ذلك ما سُمع خلال الفيديو من أقوال (نيكس) نفسِه عندما سُئل عن كيفية جمع معلومات استخبارية عن الفريق المنافِس لحملة ترامب، ليُجيب «إن الشركة يمكن أن «ترسل بعضَ الفتيات إلى منزل المرشح» المنافِس.
والأمر لا يتعلق بالطبع بموقع فيس بوك فحسب، وانما هناك مواقع تواصل أُخرى كثيرة، استُهدف مستخدِموها لأغراض سياسية وكانوا هدفاً لبث مواد وأخبار قد تؤثر على قناعاتهم، من ذلك على سبيل المثال ما نشره موقع (تويتر) من أن 1.4 مليون تغريدة وصلت الى 288 مليون أميركي قُبيل انتخابات 2016 يُعتقد ان مصدرها روسيا، كما لم تكن نتائج الاستفتاء البريطاني على الخروج من الاتحاد الأوروبي بـ (نعم)، وفقَ كثير من المحللين، بريئةً من تأثير هذه الشركات.
اضطُر (مارك زوكربيرغ) الرئيس التنفيذي لفيسبوك إلى الاعتذار للبريطانيين والاميركيين (انتبهوا: فقط للبريطانيين والاميركيين) عما تورطت فيه الشركة من استخدام بياناتهم دون علمهم بعد تسرُّبها. معترفاً بان ما حصل هو «خيانة للأمانة» على حد قوله، وأن الشركة كان يجب ان تبذل جهداً أكبر لمنع تسرب بياناتها لشركات الدعاية السوداء والتضليل الإعلامي، كما قال.
أما لماذا جاء الاعتذار للأميركيين والبريطانيين دون سواهم، فذلك لأن (زوكربيرغ) يعلم تماماً ماذا يمكن ان يفعل هؤلاء إن قاموا بالتحرك، وأعتقد أن مجالات وفرص التحرك أمام الجمهور في هذين البلدين مفتوحة على مصراعيها، ليس اقلها التحرك القضائي أو على شبكة الإنترنت ضد الشركة كالدعوة للمقاطعة، وبالفعل فقد بدأت بعض الشركات والبنوك في أنحاء العالم بعد فضيحة (كامبريج انالاتيكا) بمقاطعة الموقع بعدم نشر إعلاناتها عليه، كما ان حملات مقاطعة بدأت تظهر على الشبكة العنكبوتية وخاصة على (تويتر) وانتشرت (الهاتشتاغات) التي تدعو إلى مقاطعة الفيس بوك من قَبيل وَسْم (#احذف فيسبوك). كما هبطت أسهم الشركة بمليارات الدولارات خلال أيام لمجرد نشر أخبار انتهاكها لبيانات المستخدِمين. أما ما عدا ذلك من مستخدِمين (ولنأخذ العرب مثالاً) فليسوا بالنسبة لزوكربيرغ بتلك الأهمية، لأنهم أولاً وفي معظمهم - باستثناء بعض الشرائح – ليسوا على اطّلاع بما يجري، ولا تشكل مسألة استغلال بياناتهم سياسياً قضيةً كبيرة بالنسبة إليهم، وهذا ما دفع زوكربيرغ في حوار مع أحد أصدقائه عام 2004 لوصف مَن منحوا شركته الثقة عبر وضع بياناتهم على الموقع بأنه «غباءٌ قاتل».
ashalabe@birzeit.edu