تَحاربَ البشرُ منذ فجر البشرية لأنهم مختلفون. صارت الحربُ قلمَ التاريخ الذي كتبَ بدماء البشر فصول مسيرتهم وخلط فيها الغموض مع البؤس والشقاء والدهشة والإنجاز. وراء أقنعة مسوغات الحروب بتنوعاتها قبعت مصالح ومطامع ورغبات وشهوات وتوسعات، لكن ظل زعم «الاختلاف» يتلبس تلك المسوغات، نقاتل بعضنا بعضا لأننا مختلفون. ماذا إذن لو لم نعدْ مختلفين، لو تشابهنا تماماً، لو صرنا أشباه لبعضنا البعض، لو صرنا نُسخاً متماثلة (حتى لو كانت مملة) فلا يختلف أحدنا عن الآخر، ولا شعب عن الآخر، هل تختفي عندها الصراعات والحروب والأحقاد؟
قد نقول: إن المكان الملائم لهذا السؤال التأملي الصعب هو سجالات الفلسفة لا غير. بيد أن إبراهيم نصر الله يفاجئنا بمغامرة الإبحار في متاهة كبرى كهذه، ويبعثر ذلك الجانب الآمن المتكاذب من افتراضات البشر، الزاعم بأن لو لم نكن مختلفين لكنا أكثر سلاماً وأمناً. في تحفة روائية وتجريبية وفانتازية تكاد تكون مختلفة تماماً عن كل مسيرته الكتابية السابقة يقودنا الروائي الأردني/الفلسطيني إبراهيم نصر الله في نصّ «حرب الكلب الثانية» (بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون، 2016) إلى رحلة فلسفية عميقة تلج إلى المستقبل القريب مُرحلاً إليه بعضاً من حاضرنا البائس، ومُقحماً فيه بعضاً آخر من مستقبل متشظٍ لا يقل بؤساً عن الحاضر رغم تبجح ذاك المستقبل بتكنولوجيته وغرائبيته. في الزمنين، ماضي الرواية (حاضرنا) ومستقبلها، ليس ثمة إلا الحروب التافهة تخط أقدار الناس، جماعات وأفراداً وحكومات. في الماضي اندلعت حرب أهلية هائلة، «حرب الكلب الأولى»، وانتشر دمارها وطال كل شيء وكل فرد وكل حلم. سببها كان تافهاً مثل أسباب كل الحروب التافهة، خلاف على سلوك كلب. طالت الحرب سنوات طوال ولم يبق أخضر تأكله ولا يابس تتركه.
حلل المتأملون تلك الحرب واستنتجوا أن الجذر الحقيقي لها ولكل الحروب هو أن الناس مختلفون، وأن ثمة رغبة دفينة تدفع كل منهم، وكل مجتمع، وكل طائفة، وكل حضارة، وكل حزب، وكل دين، إلى محاولة جر الآخرين نحوه لكي يصير أولئك الآخرون أقرب إلى صورته. الخدعة الكبرى في هذه الرغبة الدفينة المُلتبسة تقول للجميع ما يلي: لو أننا تخلصنا من الاختلاف وصرنا متشابهين لما قامت الصراعات والحروب بيننا. لكن على السطح ظل عار الحرب يصم الجميع لأن سببها كان تافها وكلبياً. أصدرت «القلعة»، الدولة، قراراً بمحو الماضي والذاكرة حتى ينسى الناس تلك الحرب ويتخلصوا من الخجل والعار الذي لحق بهم. يلتقي ابراهيم نصر الله في استخدامه تقنية قرار السلطة بإلغاء الذاكرة والماضي مع الروائي البريطاني كازوو أشيغورو الحائز على جائزة نوبل للآداب السنة الماضية، 2017، في روايته الفانتازية المُبدعة «العملاق المدفون» The Burried Giant والتي صدرت في نفس سنة صدور رواية نصر الله، وفيها لطخت الحروب عقول الجماعات المتصارعة في العصور السحيقة بالجغرافية التي صارت تُعرف لاحقاً ببريطانيا. ذائقة وبراعة وصنعة نصر الله الروائية في نصه الفانتازي لا تقل في مستواها عن النصوص التي تفوز بأرقى الجوائز ـ وهي التي وصلت إلى القائمة القصيرة في جائزة البوكر العربية للرواية هذا العام.
طُويت حرب «الماضي» وفرضت «القلعة» أنظمة صارمة على ناس «المستقبل». في هذا «المستقبل» نتابع سيرة أهم شخوص الرواية وقد تسلل من «الماضي» حين كان مناضلاً صلباً لم يسقط أو يعترف أمام هول التعذيب وصنوفه. في «المستقبل» يتصاهر المناضل السابق مع أحد ضباط «القلعة» ويتشكك أصلاً ذلك الضابط وبقية القيادة في «القلعة» من رغبة المناضل السابق الذي توقف أساساً عن النضال في مصاهرة من تفننوا في تعذيبه سابقاً. ظل صموده السابق يعري ساسة «القلعة» ويعلي من كعبه الأخلاقي المنصرم، بيد أن تشفياً داخلياً ظل يتنامى في دوائر «القلعة» وهم يراقبون المناضل السابق وهو يقترب من سفالاتهم شيئاً فشيئاً ويصير شبيهاً لهم. الشبيه الجديد يقع في حب سكرتيرته فائقة الجمال والتي تناظر جمال زوجته فيقرر أن يحول العشيقة على صورة الزوجة كي يتستر على علاقته بها فلا أحد يشك به أو بها عندما يكونان معاً. «تقنيات» تحويل أي فرد إلى شبيه تُصبح متاحة أمام الجميع، إذ ما عليك سوى جلب صورة لمن تريد أن تكون شبيهاً له، أو شبيهةً لها، والذهاب إلى عيادات متخصصة تطورت طبيعياً عن عيادات التجميل التي كانت في «الماضي»، وهناك يعيدون تشكيلك وفق الصورة التي تريد. وللمزيد من التطور والتعقيد فإن تلك العيادات تستطيع أيضا أن تجعلك صورة مطابقة للأصل في الصوت والمزاج وبقية الصفات إن استطعت توفير ما له علاقة بـ DNA الأصل كالشعر أو اللعاب أو غيره.
وهكذا لم تمض سوى فترة قصيرة حتى طفقت في البلاد موضة «الشبيه» و»الشبيهة»: أفراد يريدون أن تتحول صورهم إلى أشباه لفنانين أو فنانات أو مشاهير أو ممثلين أو ممثلات كبار، أو نجوم أو غير نجوم. وأفراد آخرون تمكنوا من أن يصيروا أشباه ضباط ومسؤولين كبار من قيادات «القلعة»، وسائقو تكسي تمكنوا من التحول إلى أشباه لرجالات من الطبقة العليا في المجتمع، وهكذا. المناضل السابق كان في مركز هذه الفوضى، متنقلاً بين زوجته «الأصل» وعشيقته «الصورة» وبينهما الضابط شقيق زوجته الذي اشتاط غضباً عندما أدرك الخدعة الماكرة التي استخدمها المناضل لخيانة شقيقته. لكن الضابط نفسه ذا العلاقات النسائية العديدة اكتشف أيضاً أنه في أوقات غزواته الغرامية تلك، كان ثمة شبيه له يزور بيته ويخدع زوجته التي كانت تظنه زوجها. المناضل السابق الذي كان يسبق الجميع بخطوات في ذكائه وقع ضحية التشابه أيضاً، ذلك أن جاراً له أصبح يشبهه أيضاً فطار صوابه خشية أن تختلط الأمور على زوجته أثناء غيابه وتظنه زوجها. دبت الفوضى في البلد وما عاد يُعرف من هو الأصل ومن هو الشبيه، وانتشر القتل مع تلك الفوضى، قتل في كل الاتجاهات. كل أصل يريد أن يقتل شبيهه حتى لا يتمثله ويستولي على منصبه وزوجته وحتى أولاده، وكل شبيه طامع في منصب أو ثروة أو زوجة الأصل يريد قتل الأصل والتخلص منه للتنعم بكل ما سوف يسطو عليه. بلغت الفوضى ذروتها عندما ظهر شبيه للقائد الأعلى في البلاد فخشي الجميع أن يتمكن ذلك الشبيه من اغتيال الأصل والحلول مكانه وخداع الجميع. انتفض القائد نفسه وأحس بخطر شديد وتمكن من الإجهاز على شبيهه، أو على الأقل هذا ما أراد الجميع الاقتناع به!
عندما صار الجميع يشبهون بعضهم البعض وتفاقم القتل اندلعت «حرب الكلب الثانية» وأسبابها أكثر تفاهة من أسباب الحرب الأولى. وغذا كان المحللون قد وضعوا أصبعهم على الاختلاف بين الأفراد كجذر للحرب الأولى، فإن أولئك المحللين أو من حل في مكانهم، أو صار شبيهاً لهم، وضعوا أصبعهم الشبيه على جذر الحرب الثانية بكونه التشابه التام بين الأفراد. في الحرب الأولى كان التخلص من الاختلاف والأمل بالتشابه هو المخرج من طور الحرب، وفي الحرب الثانية صار التخلص من التشابه هو المخرج والوصول إلى الاختلاف هو الفضيلة الناقصة التي يفتقدها الجميع!
حول هذه الثيمة المركزية برع نصر الله في نسج خيال باذخ يغذيه الميول والكتابات السينمائية التي عُرف بها وأغنت وتغني كتابته ونصوصه، وحولها أيضاً يدير حكايات أساسية وفرعية عديدة ترتكز على ترميز كثيف لأمكنة الرواية وأزمنتها. الضابط والمناضل السابق ومن هو أعلى منهما يعملون ويستثمرون أموالهم في سيارات الإسعاف والمستشفيات التي تمص دماء الناس والمرضى وتدور بهم من مشفى لآخر في مطاردة واهمة لـ»الأمل». سيارات الإسعاف والمستشفيات تصبح أدوات القتل، في مناخ يفيض بالعفونة. القلعة وضباطها وأشباهها من قدامى المناضلين انهمكوا في رأسمالية صناعة وتدوير «الأمل» الكاذب، وفي خضم انشغالهم ذاك كانت صناعة «الشبيهين» تهيئ المناخ للحرب، وحبال موتها تطال أعناق الجميع.
Khaled.hroub@yahoo.com