أعلنت الخارجية الأميركية عن موعد جديد لنقل السفارة من تل ابيب الى القدس، يوم 15 أيار القادم ،هذا اليوم الذي له رمزية كارثية بالنسبة للشعب الفلسطيني. اختيار هذا التاريخ يعني امعان إدارة ترامب في التنكر للحقوق الفلسطينية، وفي تجديد وتعميق نكبته وفي قهره واذلاله. منذ التطهير العرقي في الاعوام 47 ، 48، 49 كان النظام الدولي مطالبا بالاعتراف بالكارثة التي احدثها المشروع الصهيوني بالشعب الفلسطيني، وكان الاعتراف بإسرائيل في الامم المتحدة مشروطا باعترافها بالدولة الفلسطينية وبالسماح للمهجرين بالعودة الى الاماكن التي اقتلعوا وهجروا منها بالقوة. لكن اسرائيل لم تلتزم بتعهداتها والامم المتحدة لم تفعل شيئا لتطبيق قراراتها في كل ما يتعلق بالشعب المنكوب، والاسوأ انها لم تعترف بالكارثة التي احدثتها دولة اسرائيل بالشعب الفلسطيني.
ادارة ترامب تشطب مئات القرارات الدولية المناهضة للاحتلال والاستيطان، ولتهويد مدينة القدس الشرقية، وللسيطرة على شعب آخر. وتتبنى سياسات حكومة الاحتلال في الضم والاستيطان والنهب والتمييز العنصري وتمعن في العداء لحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة، وهي بمواقفها العدائية الاستفزازية للشعب الفلسطيني تكافئ الاحتلال والمحتلين، وتشجع استباحتهم للاراضي والاملاك والاماكن المقدسة الاسلامية والمسيحية – وتشجع القمع الامني اليومي والمنهجي للشعب وبخاصة الفئات الشابة وكل اشكال النضال والاحتجاج السلمي. إدارة ترامب التي وصفها مايكل وولف في كتابه ( النار والغضب) بأنهم لا يعرفون الاولويات، يبدو ان لها أولويات كخطب ود حكومة المستوطنين وتبييض رئيسها نتنياهو المحاصر بملفات الفساد، وارضاء قاعدة ترامب الانتخابية من الانجيليين وأصحاب المصالح من كبار الرأسماليين الجشعين، أمثال الملياردير "شيلدون أدلسون" احد أكبر الداعمين للحزب الجمهوري الذي استعد لتمويل ميزانية إقامة السفارة الجديدة في مدينة القدس فضلا عن التاثير في انتخابات الكونغرس القريبة.
استعجال وحماس ادارة ترامب في نقل السفارة ومواءمته مع ذكرى نكبة الشعب الفلسطيني يعود الى همود وانطفاء ردود الفعل على قراره الظالم والعدائي. وبخاصة الرد العربي الرسمي الذي اكتفى ببيانات التنديد، ولم يتخذ اية خطوة عملية ضاغطة تُدَّفع إدارة ترامب ثمنا لقرارها. بالعكس، فقد كانت العلاقة بين إدارة ترامب والعديد من الانظمة العربية تشهد تطورا في مجالات صفقات السلاح والمشاريع الاقتصادية المشتركة والتعاون الأمني والسياسي والاقليمي، تلك العلاقة التي بلغت ذروتها في قمة الرياض بقيت على حالها، بل شهدت مزيدا من التعاون بعد قرار التبرع الأميركي بمدينة القدس الشرقية. ولما لم تخسر إدارة ترامب شيئا بعد القرار ولم تتعرض الى ضغوط استنادا للغة المصالح والخسارة والربح كناظم للعلاقات، فقد ارتأت التسريع والذهاب بموقفها الى نهاياته نقل السفارة في ذكرى نكبة الشعب الفلسطيني، مضيفة بذلك نكبة جديدة.
الشيء نفسه ينطبق على الموقف الدولي وبخاصة الموقف الاوروبي الذي رفض خطوة ترامب وبقي ملتزما بالدور الأميركي في حل الصراع الفلسطيني الاسرائيلي وانتظار الصفقة، وظل يحث القيادة الفلسطينية على انتظارها وعدم اتخاذ مواقف متشددة او دراماتيكية. بدورها روسيا التي تم الاستنجاد الفلسطيني بها لم تقدم ما من شأنه اعتراض الموقف الأميركي كما فعلت وتفعل على جبهة سورية. بفعل تلك المواقف مضافا اليها خفوت الردود الشعبية العربية بما في ذلك محدودية الرد الشعبي الفلسطيني بقيت ادارة ترامب حرة في مواصلة صفقتها ، وحرة في إشعال كل الاضواء الخضراء امام اندفاع الحكومة الاسرائيلية في استباحتها للحقوق الوطنية والمدنية الفلسطينية التي وصلت حد التضييق على كنيسة القيامة في مدينة القدس ما ادى الى إغلاقها احتجاجا على الضرائب المستحدثة.
قرار ترامب وترجماته وتجلياته على الارض قذف بقفاز التحدي في وجه فلسطين الرسمية والشعبية، في وجه المنظمة والسلطة والمعارضة، في وجه الداخل والخارج الفلسطيني. قرار ترامب فتح معركة كبيرة بلا رحمة ضد الكل الفلسطيني مفاجئا المستوى السياسي باستخدامه أسلحة سياسية واقتصادية من الوزن الثقيل. اختبر السياسات وبخاصة سياسة الرهان على السياسة الأميركية بما في ذلك التعويل على ترامب نفسه بعد اسابيع من وصوله للبيت الابيض، واختبر سياسة التفاوض، وواقع المؤسسة الرسمية ومؤسسات المجتمع المدني بخاصة الاحزاب التي ما زالت غارقة في طقوس الاحتفال بانطلاقاتها. واختبر السياسات الاقتصادية والتعليمية وكشف عن فشلها. القرار عرفنا على ذاتنا وعلى قدراتنا وعناصر قوتنا غير المنظمة وعناصر ضعفنا المتراكمة. دخلنا الامتحان برصيد كبير من القصور وعدم الاستعداد لا نحسد عليه. اصبحنا أمام مهمات كبيرة ومعقدة. كمهمة مراجعة السياسات ونقدها وتجاوز المصائب الناجمة عنها. ومهمة بناء الذات بما في ذلك إعادة بناء المؤسسة السياسية والاقتصادية والامنية للاستقواء بها والصمود عبرها. ومهمة الاعتماد على الذات وتطوير الموارد من داخل المجتمع كبديل للاعتماد على المال السياسي وبخاصة الأميركي الذي كان ثمنه باهضا ومدمرا. ومهمة إعادة بناء التحالفات مع الاشقاء والاصدقاء غير الرسميين ممن يعتمد عليهم وقت الازمات ويعتمدون علينا بالمثل في ازماتهم ، بعد تخلي صنف الحلفاء المعتمدعن فلسطين وقضيتها. كان ينبغي الاستعداد التراكمي في كل مهمة من المهمات السابقة للاحتمال الاسوأ، وكان من شأن الاستعداد تعزيز الصمود وتوفير القوة لافشال قرار ترامب مثلا، ووقف الاستباحة الاسرائيلية ، وممارسة ضغوط شعبية على النظام العربي الموغل في الانسحاب من القضية الفلسطينية والموغل في التطبيع مع دولة الاحتلال. لم يحدث وان وضع المستوى السياسي - بما في ذلك المعارضة - خطة "ب" على افتراض فشل خطة " أ "، مع ان مقدمات الفشل كانت اكثر من واضحة. ولم يستعد لفشل المفاوضات الفاشلة، ولم يوفر الاستعداد للتنكر الاسرائيلي للاتفاقات مع ان الاسرائيليين تنكروا مع سبق الاصرار والترصد للاتفاقات التي وضعوا شروطها بأيديهم.
الانكشاف الفلسطيني، على مهمات من الوزن الثقيل في وقت واحد وعلى كل الجبهات. يحتاج الى دراية وحكمة وطول نفس وجرأة وتحديد للأولويات، كي تنجح مهمة الصمود في وجه عملية التصفية التي تقودها إدارة التوحش الترامبية. ما اسهل التركيز على بند واحد هو تعداد الاخطاء الكبيرة والصغيرة الذي يخدم الاحباط واليأس فقط. ولكن إذا كان الهدف المركزي هو تقوية العامل الفلسطيني وتمكينه من الصمود في وجه التصفيةإ فإن النقد يأتي في ذلك السياق ويصب في خدمته. التغيير التدريجي في السياسات وفي البنية وفي الأولويات اصبح اكثر من ضروري، ولكن للاسف لم نشهد حتى الان بوادر لذلك لا في الخطاب ولا في الاسلوب ولا في السياسات ولا في العلاقات. فمتى ستكون البداية ؟
Mohanned_t@yahoo.com