من غزة إلى القاهرة ، رحلة رعب و حب !! محمـد يوسف الوحيــدي

الثلاثاء 13 فبراير 2018 09:41 ص / بتوقيت القدس +2GMT
من  غزة إلى القاهرة ، رحلة  رعب و حب  !!  محمـد يوسف الوحيــدي



الفلسطيني ، المسيح الفادي ، الذي يتحمل مآسي و معاصي البشر ، و يتعذب في كل خطوة يخطوها ، دون ذنب أو جريرة ، و لكنه يجد نفسه دائماً محاصراً  بعقاب على آثام ، و جرائم لم يقترفها ، ملوماً ، مطارداً ، بل و يجهد الكثير من البشر ، في إختراع و تصنيع الإتهامات له ،  أينما حل أو بدأ ينبت و يزهر ، ليقصفوا ظهره و زهره ، و يحرقوا  إستقراره و سكنه و أمنه و أمانه .. هكذا هو الفلسطيني بإختصار .. الفلسطيني الذي زاغ منه البصر ، و تاهت بوصلته و بات يشك حتى في نفسه ، من كثرة ترديد التهم ضده ، و تلفيق الجرائم له ، صدقها ، و بات هو أيضا يعنف نفسه و ينقسم على ذاته ، و يهرب منها إلى فضاء واسع لا نهاية له ، و لا قرار و لا إستقرار فيه .. يشك في كل شئ  و يرفض و يقبل ما يرفض و يعود ليرفض ، يفكر و يناقض عقله ، حتى أصبح يحمل في الداخل ضده .. هذا الفلسطيني ، المصلوب على خشبة قرن من الخيبة و الإنكسار و الهزائم، و التعاسة و الخيانة و التفريط ، كل ما يحتاجة ، يد تربت عليه ، و كتف يركن إليه ، و لمسة وفاء و حماية تشعره ببعض الدفء و الأمن و الإطمئنان ..  لذلك كانت حاجته الماسة ، و الملحة ومازالت إلى البحث عن بيت له ، يؤيه ، و أخ أكبر يحميه ، في كل فضاءات الشتات و اللجوء و الترحال التي يسافر إليها بحثا عن ذاته و حريته و قوت أبنائه ..

 السفارة الفلسطينية ، لأي فلسطيني ، سفارة من نوع آخر ، يتخطى دورها الدور التلقليدي لأي سفارة لدولة أو كيان طبيعي على سطح الأرض ... فهي سفارة لشعب مختلف ، يحمل قضية مختلفة ، و بالتالي فإن دورها و مهامها يجب أن تكون مختلفة ، و الأداء الديبلوماسي الطبيعي ، العادي ، المشابة لأداء أي سفارة لدولة أو شعب آخر ، ليس هو المطلوب ، بل هو منتقد و مرفوض ، من أبناء الشعب الفلسطيني .. كل هذه المعاني و غيرها ، بعبارات مختلفة و متشابكة ومرتبكة  سمعتها أثناء خوضي لتجربة السفر الأخيرة من غزة إلى القاهرة عبر منفذ رفح البري ، رحلة إستغرقت خمسة أيام كاملة لقطع ستمائة كيلو متر ، بمعدل  مائة  كيلو متر في اليوم .. في كل كيلو متر منها حكاية ، و مشاهد ، و حقائق ، و لوحات ملونة ، حزينة لدرجة العويل و النحيب ، مخيفة لدرجة الرعشة و الذهول من الرعب  مضحكة بقهقهات عاليات ، و لكن خلف هذا غصة إفتقاد الظهير و اليد الحانية التي تحمي و تنقذ .. إلى أن بدأت تتضح بعض الصور ...

صور من أروع ما يمكن أن يتخيلها أي عربي غيور محب لعروبته ، و خاصة المصري الهوى من أمثالي ، وهم يشاهدون بأم أعينهم أبطال الجيوش المصرية ، على إختلافها ، بقوتهم ، و روعة أدائهم ، و إبتساماتهم التي لا تفارق محياهم ، بل و إعتذارهم لنا ، بألطف العبارات ، و أرق الكلمات عن التأخير في حركتنا ، شارحين لنا أن توقيت سفرنا جاء مع توقيت قيامهم بمهامهم ، رغم إيماني شخصيا ، و إيمان المسافرين معي ، بأننا نتقاسم مع شباب الجيش المصري دوراً وطنيا قوميا ، بصبرنا ، و معاناتنا في السفر ، و بعدنا عن أهلنا و أبنائنا و أعمالنا و بيوتنا ، لأيام ننام في الشارع ، بين السماء و الطارق، كان الجيش المصري ، في كثير من الأحيان يمدنا بالماء ، و الطعام من مخصصاتهم ، بل شاهدت بأم عيني كيف قاموا بحمل الأطفال ، و إحضار الماء الساخن لإعداد الحليب لهم  ،  ذلك الشعور ، بالأمان ، و لأول مرة أشهد عليه ، بمنتهى الصدق و الأمانة ، كان مصدره أمران .. معاملة الجيش المصري لنا بكل رفعة أخلاق ، وهي السلاح الأقوى الذي يمتلكه هذا الجيش العربي المصري الذي أعاد لنا الإحساس بمجرد رؤيته بفخر و زهو ما بعده زهو ، و معاملة الأهالي ، خاصة أهل الشيخ زويد ، الذين يشعرون أنك تعيش في المدينة الفاضلة ، يتسابقون لدعوتك إلى بيوتهم ، رافضين أن نبقى في الشارع ، فاتحين بيوتهم ، لكل الفلسطينيين العالقين ، يحملونهم على رؤوسهم ، يستضيفونهم كالأمراء ، و الأمر الثاني  كان المفاجأة الرائعة ، و غير المسبوقة ، على الأقل بالنسبة لي ، و لكثير من المسافرين العالقين معي :  تواصل سعادة سفير دولة فلسطين في القاهرة ، الأخ المناضل دياب اللوح – أبو النمر ... بي شخصياً ليطمئن ، و ليطمئن من خلالي الجميع ، بانه على رأس خلية عمل ، و غرفة عمليات  ، يتابعنا خطوة بخطوة ، و يقوم بكل الإتصالات اللازمة ، ليفك طلاسم الأزمة ، و يخرجنا من محنتنا .. كان يبادر هو بالإتصال ، في كل مكان يتمكن فيه من التواصل معي ، و يتوفر فيه شبكة إتصال ، و يستمع إلى صورة الوضع ، ليتابع من جهته  واعدا في كل مرة أنه لن يرتاح أو يهدأ له بال إلا بعد أن يتأكد من وصولنا جميعا بأمان و سلام إلى  المحروسة ..

هذا السفير ، بما فعل ، بهذا الموقف ، إستحق و بجدارة ، وليس بقرار من الخارجية ، و لا من أي جهة ، بل بقرار منا ، نحن الناس ، نحن  أبناء الشعب ، لقب ( سعادة السفير ) لأنه ولأول مرة ، وضع تفسيراً منطقيا لهذه التزكية أو اللقب الذي تعودنا أن يسبق إسم أي سفير ، إنه السفير الذي جلب السعادة للناس .. فإستحق أن يدعوا له الناس بالسعادة .