لا تكاد تنشغل دولة في العصر الحديث بموضوع الحرب كما تنشغل بها إسرائيل، كما لم تَخُض أي دولة حديثة مُنذ نشأتها وبهذا العمر القصير حروباً مثل إسرائيل، فلا يكاد يمرّ عام دون أنّ تشنّ هذه الدولة حرباً أو عدواناً على شعوب المنطقة، والسبب يكمن في طبيعة إسرائيل بوصفها مجتمعاً استيطانياً وتوسعياً مدججاً بالأيديولوجية الصهيونية العدوانية، والأهم من كل ذلك تصورات إسرائيل لذاتها كدولة مستهدفة على الدوام ومحاطة بالأعداء من كل جانب، ما يجعل من فكرة الحرب بمثابة حجر الزاوية لهذه الدولة، فالاستعداد للحرب سمة ملازمة وكامنة بدولة إسرائيل، حيثُ كافة المكونات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والإعلامية مسكونة بفكرة الحرب.
وقد شنت إسرائيل منذ نشأتها إلى اليوم خمسة عشر حرباً على شعوب المنطقة كان آخرها ثلاث حروب متتالية على قطاع غزة، أمّا عن الحرب القادمة التي ينهمك الإعلام الإسرائيلي بقرع طبولها منذ أيام ستكون متركزة على الجبهة الشمالية، وذلك نظراً للتطورات التي أفرزتها الحرب السورية وأبرزها الوجود الإيراني المكثف على الأراضي السورية وتنامي قوة حزب الله وحصوله على أسلحة متطورة.
وقد عبرت إسرائيل منذ سنوات عن قلقها من تراكُم القدرات الصاروخية لحزب الله (قرابة مئة ألف صاروخ)، ولكن ما أثار قلقها في الأسابيع الماضية هو المعامل الايرانية في لبنان التي تدعي إسرائيل أنها تعمل على تطوير صواريخ أكثر دقة لصالح حزب الله، وهو ما يجعل من منشآتها الحيوية في الشمال عرضة لخطر حقيقي، وهذا سبب كافٍ من ناحية إسرائيل لتوجيه ضربة استباقية لهذه المعامل حتى وإن أدى ذلك إلى نشوب حرب.
أمّا العامل الثاني الذي يثير قلقاً متنامياً في إسرائيل فيتمثل بتعزيز التواجد العسكري الإيراني على الأراضي السورية، وهو ما دفع "إسرائيل" لتوجيه ضربة لقاعدة إيرانية قيد الإنشاء، وبالتالي فإنّ التغلغل الإيراني في سورية قد يكون سبباً كافياً للخروج إلى الحرب.
أمّا الجبهة الجنوبية أيّ الحرب على قطاع غزة فهي ليست واردة في المدى المنظور وإسرائيل غير معنية بها، بل على العكس أبدت إسرائيل قلقها من تدهور الأوضاع الاقتصادية والإنسانية في القطاع، الأمر الذي يدفع تجاه حرب جديدة على غزة، وإسرائيل ليست راغبة بها في هذه المرحلة.
وبهذا فإنّ الحرب القادمة في حال وقوعها ستكون على الجبهة الشمالية، والذرائع كما أسلفنا سابقاً الوجود الإيراني في سورية ومعمل الصواريخ في لبنان، هذان السببان يتصدران المشهد في حال الذهاب إلى الحرب، إلاّ أنّ الأسباب الحقيقية لهذه الحرب كامنة بنتائج الحرب السورية الدائرة منذ سبع سنوات، علاوة على أسباب أخرى تتعلق بالتطورات التي تعصف بالمنطقة عموماً.
إذن، فاحتمال وقوع حرب جديدة في المنطقة سيكون نابعاً من هذه التطورات، وقرار الحرب سيرتكز على أساس المتغيرات السياسية والإستراتيجية التالية:
أولاً: أتت روسيا في المشهد الأخير من الحرب كمن حسم الحرب على الإرهاب، وظهرت هي القوة العظمى التي دحرت "داعش" وهو ما وفر لها موطئ قدم في المنطقة كقوة عالمية تزاحم الولايات المتحدة حضورها في المنطقة، في حين ظهرت المساهمة الأميركية في دحر داعش باهتة، وكان المستفيد الأول من ضرباتها سواء في العراق أو في سورية هي القوى المناهضة لها كإيران والنظام السوري.
ثانياً: كانت إيران هي المستفيد الأبرز من دحر داعش في العراق وسورية، وساعد ذلك في تمددها في المنطقة، وسيعزز ذلك من تأثيرها السياسي والعسكري كقوة إقليمية فاعلة، وهو ما تعتبره إسرائيل خطراً استراتيجياً ينبغي التصدي له بسرعة قبل أن يترسخ.
ثالثاً: إنّ فشل مساعي الأكراد في العراق بالاستقلال والهجوم الذي تشنّه تركيا على الأكراد في شمال سورية شكّل ضربة لمخططات الولايات المتحدة وإسرائيل لخلق دولة للأكراد، وهو ما سمح بالتقارب التركي الإيراني، وبتباعد من جانب تركيا عن الولايات المتحدة وإسرائيل، بسبب التضارب في المصالح والاستراتيجيات وهو ما ينذر بتحولات على صعيد خارطة التحالفات في المنطقة.
رابعاً: كما أنّ الجهود السياسية لإيجاد حل للأزمة السورية تتصدرها روسيا إلى جانب إيران وتركيا وهو ما أخرج الولايات المتحدة وحلفائها من المشهد، ولم تخف الولايات المتحدة امتعاضها من الدور الروسي البارز في قيادة الجهود السياسية لحل الأزمة.
خامساً: وفي ظل تعثر الحرب في اليمن، وغرق دول الخليج في وحلها منذ سنوات قد يكون عاملاً آخر من العوامل التي قد تدفع باتجاه الحرب للمساهمة في حسمها لصالح دول الخليج.
سادساً: بعد إعلان الفلسطينيين رفضهم لأي وساطة أميركية في عملية التسوية في أعقاب إعلان ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة إسرائيل، فاقم الاستعصاء السياسي في عملية التسوية، ما سيشكل ضربةً للحضور الأميركي وتأثيره في المنطقة إذا استمر الموقف الفلسطيني رافضاً للدور الأميركي.
سابعاً: أمّا الحسابات السياسية الداخلية في إسرائيل فقد تُشكّل عوامل ثانوية في قرار دخول الحرب؛ لأنّ العوامل المذكورة سابقاً والتي قد تدفع باتجاه الحرب ذات طبيعة إستراتيجية أكبر من الحسابات الشخصية والسياسية الداخلية.
إنّ هذه الحرب المحتملة ستكون أصعب من الحروب التي يتعين على إسرائيل اتخاذ قرار بشأنها لأنّها قد تؤدي إلى حرب شاملة في المنطقة برمتها، بل وقد تقود إلى تصادم قوى عالمية كبرى كالولايات المتحدة وروسيا.
لقد باتت كافة التناقضات حاضرة في هذا المشهد، وذات العوامل التي قد تدفع باتجاه الحرب هي ذاتها التي تمنع اندلاعها، وفي هذه الحالة فإنّ قرار الحرب لن يكون سهلاً من جانب إسرائيل، فهي الآن في مُعضلة كبيرة وستكون خاسرة في الحالتين، فإن هي قررت الخروج إلى حرب قد تكون عواقبها وخيمة عليها، وإن هي سلّمت بالمتغيرات التي لا تجري في صالحها ستكون خاسرةً أيضاً، وبهذا فإن مسألة الحرب ستكون احتمالاً وارداً بل ومرجحاً في ظِل انحسار الدور الذي باتت تلعبه الولايات المتحدة في المنطقة وفي العالم، وتقدم القوى العالمية الأُخرى كروسيا والصين، وتنامي قوى إقليمية أُخرى في المنطقة كإيران وتركيا، وقد يكون الملف النووي الإيراني هو العنوان لهذه الحرب في ظل تلويح إدارة ترامب لتنصلها من الاتفاق النووي مع إيران، وقد يكون العنوان انفجارَ إحدى الأزمات في المنطقة أو بالأحرى افتعال أزمة في إحدى الساحات العربية القريبة، وقد توفر دول خليجية الذريعة لشنّ مثل هذه الحرب، التي من الممكن أنّ تأخذ المنطقة إلى مجاهيل الحروب الأهلية والويلات والمآسي، وهذه المرة لن تكون إسرائيل متفرجةً وبعيدة عن تداعياتها، وإنما ستكون أول المتضررين منها مهما كانت نتائجها.