الحقيقة والخُرافة في ربيع العرب ...محمد ياغي

الجمعة 09 فبراير 2018 07:28 م / بتوقيت القدس +2GMT



على قناة الميادين أطل علينا الأستاذ طلال أبو غزالة، مؤسس ورئيس مجموعة طلال أبو غزالة الدولية، قبل أيام للحديث عن أهمية المعرفة الرقمية كأداة للتقدم الاقتصادي والثقافي. من جملة ما قاله أبو غزالة أن «ما سُمِي بالربيع العربي كان مبرمجاً منذ البداية» وأن «العدو الصهيوني يقف خلفه» و»أنه كان بداية عصر الانحطاط في العالم العربي» متوقعاً أن تبدأ النهضة العربية مع حلول العام 2020. 
«الميادين»، نفسها، ومن خلال برنامجها لعبة الأمم، كانت قد استضافت محمود جبريل، الذي انشق عن نظام القذافي خلال الثورة الليبية، وحاولت معه عبر مقدم البرنامج سامي كليب أن تصل الى خلاصات مفادها أن كل ما جرى في ليبيا كان عبارة عن مؤامرة فرنسية. لكن جبريل أصر بأن الثورة الليبية كانت حقيقية وأن محاولة تطويعها لحساب تيار سياسي مقبول من الغرب كما قال، جرت بعد الثورة وليس قبلها. جبريل كان يتحدث عن تيار الإخوان المسلمين الليبيين الذين خسروا الانتخابات العام ٢٠١٤. 
في نفس الأسبوع، كانت صحيفة الغد الأردنية قد نشرت مقابلة مطولة مع أحد زعماء حركة الإخوان المسلمين في الأردن، الدكتور عبد اللطيف عربيات، قال فيها إن «الربيع العربي» هو مؤامرة دولية هدفها تأمين إسرائيل لمدة مائة عام، ونحن لا نعلم إن كان عربيات يتحدث عن رؤيته الخاصة أم أنه يعكس رؤية إخوان الأردن عموماً. 
الكثير من أبناء اليسار العربي الذي تحمل قمع الأنظمة في السابق وهم يدافعون عن حقوق الناس في العدالة الاجتماعية، يعتبرون اليوم الثورات العربية مجرد مؤامرة هدفها تدمير الدول العربية «المركزية» لحساب إسرائيل. أذكر أن أحدهم نعتها «بالثورات البرتقالية» تشبيهاً لها بتلك التي حدثت في أوكرانيا وجورجيا والتي دعمتها الولايات المتحدة وأوروبا. لا أعرف إن كانت صفة اليسار ما زالت تنطبق عليهم اليوم.  
من المؤسف حقاً أن تجري محاولات توصيف الحراك الثوري لملايين العرب الذين طالبوا بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية على أنها مؤامرة كونية تقف خلفها إسرائيل. وكأن العرب كانوا خلال العقود السبعة الأخيرة (منذ نهاية الاستعمار والاستقلال السياسي) ينعمون بالحرية والرفاه الاجتماعي والازدهار الاقتصادي والثقافي، ثم جاءت الانتفاضات الشعبية لتطالب بالعبودية وبوضع حد لهذا الرخاء!
هؤلاء الذين يرغبون في صياغة الوعي العربي لحساب أجندات سياسية خاصة بهم، يريدون منا أن ننسى أن أكثر من ثلث العالم العربي يعيش على حافة الفقر، وأن لا حقوق للإنسان العربي في اختيار أو محاسبة من يحكمه، وفوق ذلك كله، هؤلاء ينسون أن دولة صغيرة بحجم إسرائيل هزمت عدة جيوش عربية مجتمعة ولا زالت تحتفظ بغنيمتها من الحرب منذ خمسة عقود.  
في الوقت نفسه، ينظر هؤلاء الى المشهد الحالي للعالم العربي حيث جنون التطرف وأخطار التقسيم للعديد من دول المنطقة، وحيث تسيل الدماء في غالبية شوارع العواصم العربية ليقرر وبأثر رجعي بأن كل ما جرى في السنوات السبع الأخيرة منذ ثورة تونس هو مخطط شرير تم تنفيذه بعناية وبدقة لمصلحة إسرائيل.  
هؤلاء يخلطون بين العديد من المشاهد بطريقة تجعل من المستحيل إعادة تركيب الصورة لفهم ما جرى وما يجري اليوم في كل دولة عربية على حدة. 
هذا الخلط - وهو في تقديري مقصود تقف خلفه مصالح سياسية وصراعات أيديولوجية - يساوي بين الدول التي حدثت فيها ثورات ولم يحدث فيها تدخل خارجي وبين تلك التي حدثت فيها ثورات ورافقها تدخل خارجي. 
وهو يساوي بين جميع تيارات الإسلام السياسي بطريقة تجعل من «داعش» و»حزب النهضة الإسلامي التونسي» شيئاً واحداً. 
هذه الاطراف التي تخلط الصورة بهذه الطريقة الساذجة تريد منا أن نرى مشهداً يتيماً: داعش والنصرة. لكن الحقيقة أن الصورة مكتظة بالمشاهد وفيها: 
ملايين العرب يخرجون للمطالبة بحقوقهم الاجتماعية والسياسية المغتصبة منذ أن حصلت الدول العربية على استقلالها السياسي من الاستعمار الأجنبي. 
وفي الصورة نخب عربية حاكمة لها جيوش وأجهزة أمن ولها مصالح تريد الحفاظ عليها بأي طريقة وبأي ثمن.
وفيها أيضاً محطات فضائية عربية تتبنى سياسات الدول التي تمولها. 
وفيها دول عربية لم تحدث فيها ثورات لكنها خافت أن تصلها موجات الحراك الثوري الذي كان واضحاً أنه يتسع ويتسع بسرعة كبيرة.
وفي الصورة أيضاً دول إقليمية لها مصالح في اتجاه الحراك الثوري ملخصه هل ستكون الأنظمة الجديدة صديقة أم معادية لها.
وفيها دول عالمية لها مصالح سياسية واقتصادية في المنطقة ويهمها أن لا يكون نتاج الحراك الثوري أنظمة معادية لها ولمصالحها.
وفيها أخيراً جماعات متطرفة تسعى لفرض فهمها للإسلام على الناس كافة.  
تقسيم الصورة الى عدد من المشاهد يجعل من السهل إعادة تركيبها وتحليلها لفهم ما جرى في كل دولة عربية على حدة بعيداً عن هستيريا المؤامرة وعن تحقير شعوب كانت وما زالت تعاني من سياسات التهميش والتفقير والقمع.
في جميع الدول العربية وبدون أي استثناء خرجت الناس بإرادتها للشوارع للمطالبة بالحرية والكرامة والعدالة، بعضها بالطبع كان مدفوعاً بنجاح الثورة التونسية.
في تونس كما في مصر، لم يحدث هناك تدخل خارجي، ربما لأن الثورتين وسرعة نجاحهما فاجأتا اللاعبين الإقليميين والدوليين، وفي كلا البلدين جرت انتخابات ديمقراطية نجح فيها من نجح وفشل فيها من فشل ولذلك أسبابه.
في ليبيا كما في سورية جرى تدخل إقليمي ودولي لإسقاط نظامي القذافي والاسد. الصراع بين القوى التي تدخلت تحت مسمى مساعدة الليبيين والسوريين أوصل البلدين الى ما هما فيه اليوم. في سورية التدخل كان أشرس بسبب ثقلها الجغرافي وبسبب علاقتها مع كل من إيران وحزب الله. مجرمو داعش والنصرة وعدد كبير من التنظيمات التي تفكر على شاكلتهما ظهرت في البلدين بعد التدخل الخارجي ولا علاقة لانتفاضة الشعبين الليبي والسوري بهما. 
في اليمن والبحرين التدخل كان إقليميا. في الأولى تم الحسم لحساب النظام لاعتبارات لها علاقة بإيران، وفي الثانية تم إبعاد العقيد علي عبد الله صالح ومحاولة توسيع المشاركة في نظامه القديم بدلاً من الإطاحة به كما أرادت الجماهير اليمنية. 
في اليمن، تحالفات التيار الإسلامي الخارجية (حزب الاصلاح) مكنت اللاعبين الإقليميين من فرض اجندتهم على اليمنيين، وهي اجنده كما لاحظنا لم يُكتب لها النجاح.
خلال كل ما جرى، كان الإعلام العربي المنحاز يسعى لرسم صورة تخدم سياسات مموليه: لا ثورة في سورية بل جماعات إرهابية مجرمة (الميادين)، جميعهم ثوار يريدون الديمقراطية والحرية بما فيهم النصرة في سورية وقوات درع ليبيا القريبة من أنصار الشريعة (الجزيرة)، وهؤلاء إرهابيون في ليبيا وثوار في سورية (العربية). 
هذه المعلومات ليست مجهولة لدى النخب العربية، لكنها تفضل عليها حماية مصالحها وامتيازاتها بالترويج لفكرة المؤامرة ومشروع جورج بوش حول الشرق الاوسط الكبير الذي تم وأده في العراق.
يقال إن التاريخ يكتبه المنتصرون عن المهزومين، وأنا أضيف بأن التاريخ يجري تزييفه أمام أعيننا أيضاً.