إبراهيم أبو ثريا ... ساقان من كبرياء!د. خالد الحروب

الأحد 28 يناير 2018 12:07 م / بتوقيت القدس +2GMT
إبراهيم أبو ثريا ... ساقان من كبرياء!د. خالد الحروب



دووم دووم دووم... ثم تختفي الهليكوبتر في قلب سحب الدخان الأسود ووسط ضجيج القصف الهابط على الناس من السماء والبحر والبر. ضربات الأباتشي خلفت وراءها دماً ودماراً وصراخاً، وسبعة قتلى شباب، ونصف دزينة أنصاف قتلى، منهم إبراهيم أبو ثريا، الذي ترك القصفُ ساقيه تسبحان إلى جواره في بركة من الدم واللحم والعظام. حدث ذلك في أوخر 2008 عندما كان إبراهيم في الحادية والعشرين من عمره. بعد تسع سنوات بالضبط من ذلك القصف وما تلاه من حياة بالغة القسوة، أي في أواخر 2017 جاء قصف آخر ليحاصر إبراهيم ورفاقه شرق غزة ... دووم دووم دووم. قناص إسرائيلي في وسط ضجيج القتل والدخان الأسود استهدف إبراهيم وصوب رصاصاته اللئيمة إلى رأسه. قُتل إبراهيم وأربعة من الشباب المتظاهرين ضد قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. السنوات العجاف التسع التي فصلت بين خسارة إبراهيم لساقيه في القصف الأول ولحياته كلها في القصف الثاني، تبدو سطراً عابراً في الأوديسة الفلسطينية التي يتعاهد الكبار على ديمومة الإمعان في إسالة دمها. في تلك السنوات التسع المديدة كيف عاش إبراهيم من دون ساقين؟ ماذا اعتمل في قلبه، كيف كانت يداه تتحسسان مكان ساقيه؟ كيف كان يرى نفسه وقد فقد فجأة نصف طوله؟ كيف صارت عيناه تنظران فجأة إلى أعلى كي "يبحلق" في عيون الناس؟ كيف كانت صباحاته وهو يرقب الناس يمشون على سيقانهم؟ وبماذا كان يفكر عندما يضع رأسه على الوسادة ولا يأتيه النوم؟ وكم من الدمع الصامت امتصت تلك الوسادة؟ لا نعلم الكثير عن ذلك، لكن عائلة إبراهيم الفقيرة والكبيرة، ورفاقه يعلمون أنه لملم حزنه وألمه وصنع منهما ساقين خياليتين لجسده النصفي، وعاد إلى الحياة. عاد إبراهيم فلا وقت لترف الحزن هنا، ولا وقت للتأمل جلياً في الألم. 
أغاني البحر: قبل فقدانه ساقيه كان إبراهيم قد صار صياداً، يعشق صباحات القوارب البسيطة مع صيادين آخرين شُعث غبر، يحضنون مياه المتوسط باحثين عن الحياة فيه لهم ولعوائلهم الكبيرة. لم يكن الصيد لا سهلاً ولا وفيراً، لكن سحر البحر ومياهه وانفتاحه وغموضه وهدوءه وغضبه كان يملأ صدر إبراهيم بجمال لذيذ ... "هذا البحر بحره". يغني ورفاقه الصيادون أغاني البحر فتفلت أرواحهم من حصار إسرائيل المضروب عليهم براً وبحراً وجواً. يصيرون أغنياء بالحداء وامتداد السماء. وراء ترانيم الأغنيات كانت تختفي الوجوه البائسة والجائعة لأفراد عوائلهم الممتدة والفقيرة التي تنتظر في المخيمات. يودون لو تسوقهم الأغنيات إلى آخر حد في البحر، ...، هل للبحر حدود؟ تتوقف الأغنيات عند الحد الإسرائيلي المرسوم في المياه وفوقها يحدد لهم الأميال القليلة المسموح لهم الصيد فيها... نعم للبحر حدود! كلما اقتربوا من الحد اكتشفوا أن الماء أكثر وفرة بالسمك من المناطق الأقرب لشاطئهم. السمك اكتشف بدوره أن الجانب الإسرائيلي من الحاجز العازل المنصوب في قلب البحر أكثر أمناً وأن جوع الصيادين لا يصلهم هناك. السمك يهرب إلى الجهة الإسرائيلية ويحتمي بالبوارج الحربية، وينظر في عيون الصيادين بمكر وتشف. 
صراخ الحرب: الحاجز الإسرائيلي المغروس على امتداد بحر غزة جزء من حصار البر والبحر والسماء المغروس حول هذه الرقعة من كوكب الأرض وناسها الذين يقارب عددهم المليونين. منذ أكثر من عشر سنين يواصل هذا الحصار النازي إفقار الناس والمدن والمخيمات وتحويل القطاع إلى مكان لا يصلح لسكن البشر وحياتهم، بحسب ما تقول الأمم المتحدة. هذا المكان هو "أكبر سجن مفتوح على وجه الأرض"، بحسب كثيرون زاروه ورؤساء ومسؤولون سابقون صحت ضمائرهم بعدما غادروا كراسي الحكم. على الأقل هم أفضل ألف مرة من آخرين ظلت ضمائرهم كسيحة خلال وبعد انتهاء مسؤولياتهم. كأن الحصار والإفقار والإذلال لم يكن كافياً فكان أن شنت إسرائيل ثلاثة حروب ضد القطاع وسكانه من 2008 إلى 2014. في الحرب الأخيرة لوحدها، حرب 2014، وبحسب الأمم المتحدة قتل 2200 فلسطيني، منهم 551 طفلاً و299 امرأة، وجرح أكثر من عشرة آلاف آخرين، منهم 3374 طفلاً، أكثر من ألف من هؤلاء أصيب بإعاقة دائمة. وثمة أكثر من 373000 طفل فلسطيني احتاجوا رعاية ومعالجة نفسية مباشرة، ولم يكن ذلك ممكناً بطبيعة الحال. الخسائر الإسرائيلية في تلك الحرب كانت مقتل 66 جندياً وستة مدنيين. مادياً، كان الدمار والخسائر التي حلت بقطاع غزة فوق التصور، ففي مدينة غزة لوحدها، ويقطنها أكثر من نصف مليون، دُمر كلياً أو جزئياً ربع البيوت، ونفس النسبة تنطبق على بقية المدن والمخيمات. كما دمرت محطة الكهرباء الرئيسة ومن ذلك التاريخ وحتى الآن وسكان غزة تصلهم الكهرباء بما لا يزيد على أربع ساعات يومياً. ودمرت أيضاً 138 مدرسة في القطاع و26 مركزاً صحياً و203 مساجد ودمر جزئياً 10 مستشفيات اضطرت للإغلاق من أصل 26 مستشفى. 
تراتيل الحياة: في أواخر 2008، احتاج إبراهيم الشاب الفائض طاقة عدة شهور لاستيعاب كارثة فقدان ساقيه. كانت الحياة قاسية بما فيه الكفاية حتى قبل حلول تلك المصيبة. بعدها صارت الحياة أقسى، أبشع، أكثر إجراماً، وأقل رحمة. "جاد" كنعان الذي كان يركض على رمل بحر عسقلان يسابق الريح صار مُلقىً الآن في زاوية البيت المهترئ فقراً في مخيم الشاطئ، عاجزاً لا حول له. كان ما كان من ألم وكآبة، وكان ما كان من حزن ضرب العائلة الفقيرة والأبوين العاجزين عن مساعدة الابن الأكبر. لكن، وبعيداً عن سطح الحزن الكآبي كان أن ظل قلب الفتى وجوهره الداخلي مقدوداً من الصخر. كأنما هي روح "شاباش" إلهة النار عند الكنعانيين نفخت في روح وجسد إبراهيم لهيب غضب أنبت له ساقين من تمرد، طويلين أطول من ساقيه الأصليين. وقف إبراهيم منتصباً، "يصفع وجه السماء ويمضي" بعيداً عن الكآبة عميقاً في روح البحر والنار التي تشربها. إبراهيم كان الأكبر في العائلة التي اعتمدت عليه منذ الصغر كي يأتي لها بما يحفظ لها كرامتها. لم يكن ثمة وقت للألم أو الاستسلام. خرج إبراهيم على كرسيه المتحرك إلى عالمه الجديد يعمل هنا وهناك بكرامة وابتسامة، عمل في غسيل السيارات، يصل إلى أماكن الزحمة بعد مسيرة ساعة على الكرسي المتحرك. ذراعاه أصبحا ساقيه، ذراعاه صارا قوائم من فولاذ تنغرس في الأرض فيطير جسده مع الكرسي فوق رؤوس الناس والأكوان. لإبراهيم ستة شقيقات وشقيقان، كلهم أصغر منه. بعضهم في الجامعة وبعضهم في الثانويات، وأكثرهم عاطل عن العمل. إبراهيم لم يتعلم، من صباه خرج إلى السوق ليعين أبيه على الدهر والحاجة. كانت المدرسة بعيدة من المخيم أصلاً وكان سيحتاج إلى التنقل بالمواصلات التي تتطلب مصروفاً لم يكن والده قادراً عليه. تنقل في أشغال صغيرة كثيرة انتهت به أخيراً إلى البحر والصيد الذي أحبه. الآن يتوق إبراهيم للبحر كثيراً. يهرق الماء على جوانب السيارات التي ينظفها ويستذكر مياه البحر الثرية. عادت بسمة إبراهيم إلى وجهه الحنطي، وصار وجهه علامة من علامات التحدي. إبراهيم لا يعيل عائلة كبيرة كبيرها موظف بسيط أحيل على التقاعد وحسب، بل يساهم في إعالة وطن. وجه إبراهيم صار واحداً من شواهد الرفض الإنساني للظلم والجبروت. على كرسيِّه المتحرك يلتحق بمظاهرة هنا واحتجاج هناك. عندما يراه ذوو السيقان العادية يخجلون فيلحقون به. يقودهم إلى الكرامة. ينظرون في عينيه فيجدون السحر والغموض. ينظرون إلى ساعديه الفولاذيين المتجذرين في الأرض فيرون سيقاناً من كبرياء تكاثرت بلا عدد. 

*جزء من ورقة بعنوان "غزة إبراهيم أبو ثريا ... واقفاً يصفع  وجه الحرب واليأس والفقر"، قُدمت في "منتدى 2018 بيونغ شانغ للإنسانيات"، على هامش الألعاب الأولمبية ـ سول، كوريا الجنوبية، 20 كانون الثاني.  Email: khaled.hroub@yahoo.com