لم يتراجع إذن هذا الرئيس للإدارة الأميركية عن قراره الذي أثار كل هذا الرفض على مستوى العالم، بل إنه زاد على ذلك بقوله إنه فخور وحصل على مرتبة الشرف أنه استطاع ان يزيح القدس عن الطاولة، ولم ينس ان يمتدح صديقه نتنياهو الذي التقى به في دافوس. وفي الوقت الذي كان يقول هذا الكلام كانت مندوبته في الأمم المتحدة تشن هجوماً شخصياً على الرئيس ابو مازن الذي «أهان الرئيس ترامب وأنهى اتفاق اوسلو»، وزادت ان أميركا أي إدارتها لن تركض وراء الفلسطينيين او ترجوهم من اجل ان يعودوا الى المفاوضات او العملية السياسية.
وكان الرجلان الصديقان ذهبا في الواقع الى منتدى دافوس ربما ليس من اجل مناقشة الموضوع الفلسطيني او العملية السياسية كأولوية، ولا بالتأكيد محاولة إنقاذ العولمة الافتصادية التي ما برح ترامب يشكل تهديداً لها، وانما كيف يمكن إقناع الأوروبيين الحاضرين بقوة هناك في كيفية إعادة فتح الاتفاق النووي وإلغائه مع ايران، حيث استبق نتنياهو الذهاب الى دافوس بإعداد مشروع قرار جديد للكنيست ليتيح للرجل اتخاذ قرار الحرب، ليس على مستوى الحرب مع غزة او جنوب لبنان وانما ايران، وهذا هو القصد دون الرجوع الى مناقشة هذا القرار مع أي مستوى في الدولة.
والمسألة واضحة، يريد الرجل ان يقول للرئيس الأميركي الذي دعمه بقوة انه هو أيضا عند الطلب، واننا سيد الرئيس نعود الآن الى المنطلق الرئيسي والأساس في علاقتنا او تحالفنا، أي ان إسرائيل هي الشرطي الوكيل او كلب الحراسة ومخلب القط في المنطقة، وهذا اقل ما نفعله. وأشاد الرئيس ترامب بدوره بهذا الوفاء عندما قارن بين الفلسطينيين والإسرائيليين قائلا: هأنتم ترون، ندفع للفلسطينيين وكثير من الدول مئات الملايين من الدولارات ولكنهم لا يقدرون ذلك ولا يحترموننا، ووحدها إسرائيل التي تقدر ذلك.
ويشبه هذا الفصل الاخير من اللعبة او هذه الدراما السياسية الطريفة او التي لا تخلو من الطرافة وقدر من الاثارة والتشويق، مشهد ازالة الطواقي او الطرابيش او الاقنعة نوع من اللعب على المكشوف. ولكن احداً هنا لا يطرح السؤال الجدير وحده ان يطرح ولأنه لا يطرح فانه يترك فراغاً غامضاً يظل عالقاً او حلقة غير مغلقة في بناء او اعادة تركيب هذه العملية بين الطرفين او بالشراكة بينهما.
ولقد اصبح واضحاً ان الهدف الاستراتيجي المشترك هو ضرب ايران التي تمثل في هذه القصة معسكر الأعداء او العدو المركزي، ولكن الشرط لإتمام هذه المهمة يقتضي توحيد معسكر الأصدقاء أي اقامة ما يسمى التحالف السني العربي الإسلامي مع إسرائيل. ولكن هذا بدوره لن يتأتى الا اذا أزيلت القضية الفلسطينية من الطريق لكيما يتم استبدال اسباب العداء بين العرب وإسرائيل بعوامل التحالف والاتفاق ضد العدو المشترك أي ايران.
وهنا السؤال، اين العملية السياسية التي تقتضي تسوية القضية الفلسطينية؟ والجواب هي صفقة القرن التي ينتظر الاعلان عنها في وقت لاحق، وهي ما زالت بعد في الادراج. وكل ما يقال حولها هو مجرد اشاعات او تكهنات.
«اذ أعلن عنها دونالد ترامب الآن حتى يتم وضع السلطة الفلسطينية والرئيس ابو مازن امام الامر الواقع». دعا بنيامين نتنياهو المعلم او الاستاذ ترامب دون اظهار ذلك لئلا يستفز رئيسا يعاني من تضخم الشعور بالغرور والنرجسية، ويعتبر نفسه العبقري الوحيد. وهكذا يوجد الفلسطينيون الطرف الذي يبدو الأضعف أمام تحقيق هذه الاستراتيجية، باعتبارهم الرقم الصعب في إفشال هذه الاستراتيجية، اذا كانت هذه العملية السياسية لحل القضية الفلسطينية او إزاحتها لا يمكن ان تتم بدون موافقتهم. وغير ذلك يقول حال الفلسطينيين: فلتشربوا من البحر او تذهبوا الى الجحيم.
«اصمدوا إذن أيها الفلسطينيون ولا تخضعوا لدونالد ترامب»، لأن النصر صبر ساعة وهو سوف يسقط ولن يكمل سنوات ولايته. وهكذا سوف يظهر فجأة ومن دون تمهيد جون كيري وزير الخارجية الأميركي السابق على هامش الصورة، في اللقاء الذي قيل انه جرى بينه وبين حسين آغا احد المقربين من الرئيس ابو مازن، انما لكي يوجه من خلاله رسالة الى الرئيس ابو مازن يشد من عضده ويحثه على المضي في موقفه الرافض لما يسمى بصفقة القرن.
وهكذا سوف نجد انفسنا ليس في قلب العالم كما لا زلنا بعد قرار ترامب الاحمق حول القدس، ولكن هذه المرة في قلب الصراع المحتدم بين الحزب الديمقراطي والجمهوري في أميركا نفسها، وربما الأدق في الاصطفاف الداخلي الأميركي بين الديمقراطية او الليبرالية، وبين اليمين العنصري المتطرف والذي يضم الانجيليين الصهيونيين الذين يمثلهم حزب دونالد ترامب الخفي والخاص ونائبه مايكل بينس. وهو اصطفاف تبلغ فيه نسبة من يؤيدون إسرائيل في اوساط الحزب الديمقراطي هي الادنى في تاريخ هذا الحزب، علما ان اليهود الأميركيين يصوتون تاريخياً بنسبة 70% للحزب الديمقراطي.
وربما يكون من البديهي او تحصيل الحاصل انه في الوقت الذي اقدم فيه ترامب على كسر قواعد اللعبة التقليدية بإزاحته القدس عن الطاولة، لم تعد هناك طاولة يتم عبرها التفاوض او عقد صفقات من أي نوع. ولكن السؤال الذي لم يعد ممكناً اخفاؤه ويطرح بقوة هو التالي: ايهما يسبق في السقوط او الانزياح، كلا هذين الرجلين الملاحقين بقوة من قبل رجال التحقيقات في كل من إسرائيل وأميركا، ام سقوط وانهيار ما يسمى بصفقة القرن؟، وعليه من أي شيء يفزع او يخاف او يقلق الفلسطينيون، اذا كان معسكر الاعداء يشبه عند هذه المرحلة لقاء «التعيس وخائب الرجاء» ؟.
لكننا مع ذلك لا نوجد نحن والحزب الديمقراطي الأميركي وحتى اوروبا التي تتوقع وتنتظر هي الأُخرى سقوط الرجل في وضع جيد ومريح، اذا كان من يخلف ترامب هو نائبه مايكل بنس الأكثر تطرفاً، وهذه المرة عقائدياً حتى ليبدو للبعض أزيَد او اكثر من نفتالي بينيت. ولقد كان وقت في ثمانينات القرن الماضي حين كان جورج بوش الأب نائبا للرئيس يسخر شخصياً من أهمية هذا المنصب بإطلاقه وصف «وعاء البول» على من يكون نائباً للرئيس.
لكننا كنا شهوداً قبل سنتين حين جاء نائب الرئيس الأميركي السابق الذي كرمه باراك اوباما في نهاية ولايته بوسام تقديراً لدوره، على خطاب ألقاه أمام الكنيست الإسرائيلي وقال فيه عبارته الماضية بحزم: «كفى، هل تريدون والى متى أن تواصلوا الحياة على حد السيف؟». ولنا ان نقارن الآن بين خطاب مايكل بنس قبل أيام أمام الكنيست وهذا الخطاب. أما في ارث جورج بوش الأب رئيساً فهو عقده مؤتمر السلام في مدريد ومعاقبته إسرائيل بوقف قروض الائتمان، وعليه فان الرهان ربما يظل على تناقض أميركا مع نفسها وتفوق وجهها السياسي الأكثر توافقاً مع العالم. وما يحدث الآن أننا قد نكون في هذه الذروة غير المسبوقة من سباق المسافات القصيرة بين هذه التناقضات، ويبدو أننا نشهد بعد الإجماع العالمي حول القضية الفلسطينية انتقال هذه القضية الى قلب الاستقطاب الأميركي الداخلي.