ليست هي المرة الأولى التي تطلق فيها تركيا عملية عسكرية برية في شمال سورية، في إطار سعي الحكومة التركية الحثيث إلى تأمين حدودها الجنوبية مع دمشق ومنع أي تواصل جغرافي كردي حتى في الشمال السوري.
عملية "غصن الزيتون" التي أطلقها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ويتابع وقائعها عن كثب، قبل أسبوع من كتابة هذا المقال، عدا أنها برية فهي أيضاً جوية ويعني هذا التدخل العسكري أن أنقرة حصلت على الضوء الأخضر من مختلف الأطراف الدولية المؤثرة في الساحة السورية.
قبل موعد بدء هذه العملية التي تستهدف منطقة عفرين في الشمال السوري، ينبغي تأكيد مسلمات تتصل بتزامن إطلاقها مع تصريحات صدرت عن التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية، تدعو إلى إقامة قوات حدودية مؤلفة من 30 ألف مقاتل، نصفهم من الأكراد.
الإعلان هذا أثار حفيظة أردوغان الذي يرى فيه مقدمة لوجود كردي قوي في الخاصرة الشمالية لسورية، من شأنه أن يثير حماسة أكراد تركيا للتحرك والتعاون مع أشقائهم في سورية في سبيل قيام جسم كردي يتمركز على الحدود التركية- السورية.
أما لماذا دفع الرئيس التركي بقواته إلى عفرين السورية التي يسيطر عليها الأكراد، فهو بذلك يحمل رسائل داخلية وأخرى خارجية، لكن جميعها تتفق على أن تركيا تريد تأمين مصالحها وإسكات أي صوت كردي سواء داخل أراضيها، أو حتى في كل من سورية والعراق حيث تحظى هذه القومية بوجود معقول في هذه الدول.
داخلياً هي رسالة شديدة اللهجة لحزب العمال الكردستاني الذي تصنفه أنقرة على أنه إرهابي، وتنظر في وجوده على أنه أكبر المهددات للسيادة التركية، إلى جانب أن إطلاق عملية عسكرية في شمال سورية تحت يافطة حماية الوطن، تشكل فرصة لإعادة بناء العلاقة بين أردوغان وحزبه وبين المجتمع التركي بكل امتداداته الحزبية.
الحكومة التركية واصلت سياستها لتصفية جميع المتورطين في أحداث الانقلاب الذي جرى منتصف العام 2016، وهذه السياسة طالت شرائح واسعة من العاملين في مواقع حسّاسة ولهم علاقة بفتح الله غولن الذي تتهمه أنقرة بتدبير الانقلاب.
أمام هذا الحزم في التعاطي مع الأوضاع الداخلية، وجدت الحكومة التركية فرصة سانحة لشغل الرأي العام حول أولويات تهدد المكتسبات والإنجازات التركية، ولذلك فإن شغل الناس في عملية عفرين هو مناسبة لالتفافهم حول القيادة التركية واستفتاء صريح على الموقف التركي من الوجود الكردي.
وأما البعد الخارجي فيحمل رسائل كثيرة، لعل أولها أن أنقرة لا تريد للولايات المتحدة الأميركية تحديداً تجاهل مصالح تركيا في سورية، خصوصاً في الملف الكردي، وسبق لأردوغان أن دعا نظيره الأميركي ترامب إلى الكف عن دعم قوات سورية الديمقراطية.
البعد الآخر يتعلق بالرغبة الشديدة في وأد فكرة قيام القوات الحدودية الكردية التي أعلن عنها سابقاً، وإسقاط مشروع الولايات المتحدة في تقسيم الدولة السورية بتمكين الأكراد في الشمال. والبعد الثالث هو رسالة للمجتمع الدولي بضرورة تفهم احتياجات تركيا الأمنية.
أما البعد الرابع فله علاقة بمطلب تركيا القديم الذي يقضي بعدم وجود أي حزام كردي يهدد مصالحها، حتى أنها ليست مع أي وجود كردي في سورية أو العراق يسعى إلى الاستقلال، وحدث أن وقفت "بالباع والذراع" مع الحكومة العراقية لإفشال تحول كردستان العراق إلى دولة مستقلة.
تركيا بصريح العبارة لا تريد في سورية لا حكماً ذاتياً كردياً ولا دويلة أو دولة، ولا حتى وجوداً ديموغرافياً قريباً من حدودها، بدليل أنها رفضت اقتراحاً أميركياً نقله وزير الخارجية ريكس تيلرسون إلى الحكومة التركية، يستهدف إقامة منطقة آمنة في شمال سورية.
وفي حقيقة الأمر، يمكن القول: إن أنقرة مستفزة جداً من السياسة الأميركية التي ترى القيادة التركية أنها تتجاهل مصالحها، ذلك أن واشنطن تفهمت قليلاً تخوفات تركيا الأمنية، لكنها تأمل عملية عسكرية تركية سريعة ومحدودة ولا تتجاوز مربع عفرين.
على أن تركيا لا تنظر كثيراً إلى موضوع الضربات التكتيكية، فهي تبحث عن لكمة إستراتيجية تسددها إلى الأكراد، ومن المرجح أنها ستدخل في مفاوضات صريحة أو سرية مع واشنطن للمساومة على الوجود الكردي في الشمال السوري.
ولا يبدو أن هناك مشكلة مع روسيا والنظام السوري بالنسبة للحكومة التركية، إذ تتفهم موسكو الخوف التركي من الوجود الكردي، خصوصاً أن للأكراد حضوراً قوياً في المشهد التركي، ولذلك فإن القيادة الروسية تغض الطرف عن عملية عفرين.
أيضاً هناك تقاطع بين مصالح أنقرة ودمشق من عملية عفرين، وحيث تنظر الحكومتان إلى الوجود الكردي على أنهم مصدر تهديد، لكن النظام السوري لا يريد فتح جبهة مع تلك القوات، لأن استفزازها سيثير استفزاز واشنطن التي تدعمها.
مع ذلك، فإن التصريحات الرسمية السورية بالتأكيد ستذهب إلى اتهام أنقرة بالتعرض إلى سلامة أراضيها، غير أن هذه التصريحات موجهة للاستهلاك الإعلامي، بينما تسكت الحكومة السورية في حقيقة الأمر عن هذا الإجراء التركي.
ولا يغيب عن أحد في هذا المقام أن كل دولة تسعى لتأمين مصالحها الحيوية في سورية. الإيرانيون فعلوا ذلك وكذلك الحال بالنسبة لإسرائيل التي لم يتوقف رئيس حكومتها نتنياهو عن لقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للاطمئنان على أمن الدولة العبرية من الشمال، ويشمل ذلك فرملة الوجود الإيراني في الداخل السوري.
ولعل روسيا أكثر دولة تدرك أهمية الأخذ بمصالح دول الطوق من حول سورية، إذ إنها ترى بتجاهل تلك المصالح زيادة في الأعداء وتعقيداً لحل النزاع كما تراه هي مناسباً، لذلك تجدها تتفهم احتياجات أغلب الدول المؤثرة في النزاع السوري، دون أن تسقط مصالحها.
خلاصة القول: إن واشنطن التي تنظر إلى الأكراد باهتمام شديد وباعتبارهم كعكة يمكن المساومة عليها بين الدول المؤثرة في النزاع السوري، من المرجح أن تفرمل حماستها باستخدام الورقة الكردية لتهديد الأتراك والنظام السوري، وليس من المستبعد أن تفاوض عليهم وتبيعهم لتحقيق مصالحها وتأمين مصالح إسرائيل الحيوية.
Hokal79@hotmail.com