قررت أن أصارحكم بما أفكر فيه وأخطط له، حيث إنني من هواة الطبخ منذ زمن بعيد، أرى الطبخ فناً وموهبة، ولا يكفي نقل وصفة وتطبيقها بحذافيرها لكي تنتج طبقاً شهياً، وكما تقول أمهاتنا: إن الطبخ نَفَس، فمن الممكن أن تعد امرأتان نفس الطبق بنفس الطريقة والمكونات، ولكن طبقاً سيكون أشهى من الآخر، والسر هو النفس، ولأنني أمتلك هذا السر فالجميع يشيد بلذة أطباقي مهما كان تواضعها، حتى لو كان طبقي عبارة عن أكلة الكشري المصرية الشهيرة الشعبية، والتي نطلق عليها في بلادنا اسم «المجدرة».
الكشري أو المجدرة هي أكلة شعبية بامتياز ومكوناتها الرخيصة والمتوافرة تجعلها منتشرة في البيوت مهما كان مستواها المادي، وبالنسبة لي فلا يمر أسبوع دون أن أعدها، وأتفنن في إعدادها، واسترجع في مخيلتي عربات الكشري التي كنت أراها منتشرة في المناطق الشعبية بالقاهرة حين كنت أزورها في سنوات طفولتي خصوصاً، وحيث كانت تسبب لي شغفاً للوقوف على ناصية أحد الشوارع والتهامها وقوفاً مثلما يفعل الفقراء وصغار الموظفين البسطاء، وكان أبي يزجرني عند طلبي وإلحاحي لكي يشتري لي طبقاً من الكشري لأنه يراها غير نظيفة وليست آمنة على الصحة.
وهكذا بقيت تلك العربات في مخيلتي ومرت بي السنوات حتى تحولت إلى كاتبة وقررت أن استغل شغفي القديم وأضفت له سبباً جديداً، وهو أن ابني قد تخرج من الجامعة منذ عامين ولم يعثر على عمل مثله مثل آلاف الخريجين في غزة، فطرحت عليه فكرة عربة الكشري فاستهجن، ولكني تناقشت معه واكتشفت النظرة الدونية التي يحملها المجتمع حولنا لعربات الطعام المتنقلة والتي نراها في الشوارع، وبأنها تقلل من قيمة العمل بالنسبة لمن يمتهن البيع فوقها مهما كانت بضاعته.
هذه العربات الخشبية والتي أصبح أصحابها يتفننون في تزيينها وزخرفتها، وكذلك هناك من يضع تصميمات مميزة لها لجذب الزبائن، كما أن هناك من يستخدم عربات باص صغيرة لكي تكون قابلة للتنقل بصورة أسرع، ولكي تقدم عليها المشروبات والمأكولات السريعة، فهذه كلها مشاريع صغيرة من الممكن أن تكون حلاً لبطالة الشباب والشابات أيضاً في ظل عدم توفر الوظائف والعمل المناسب لتخصصاتهم، وبدلاً من الانتظار الممض والمرهق وإضاعة سنوات من العمر دون تكوين مستقبل متمثلاً في مبلغ من المال فيمكن أن يستغل الشباب هذه المشاريع دون النظر لنظرة المجتمع وبأنها إهانة للكرامة أو للمكانة الاجتماعية.
مشروعي الذي أفكر فيه يلح علي بشدة، ربما لأني سأحتك بالجمهور وألمس نبض الشارع، وأسمع شكوى الناس البسطاء والخريجين وجميع فئات الشعب، وبذلك يكون لدي تربة خصبة لكتابة القصص التي أمتهنها، والتي تعتبر هوايتي الأولى، وحيث إني استقي أبطال قصصي من الواقع، خاصة واقع الفقراء والمسحوقين.
ومشروع عربة الكشري ليس إلا رسالة لكل شاب وشابة في غزة لكي لا يستسلموا لليأس، ولكي نكسر قوالب مجتمعية صلبة ومتعجرفة، ولأننا للأسف نردد الشعارات ولا نطبقها، فحين نقول: إن العمل شرف، فنحن لا نفكر مجرد التفكير بأن يقف أحد أولادنا خلف عربة «كشري»، أو عربة مشروبات ساخنة وباردة ونترك هذا الولد يعاني من البطالة وما يتبعها من فراغ وأزمات نفسية تنعكس عليه وعلى الأسرة.
بمراجعة ودراسة ما حدث في غزة بعد الحصار وقبله بسنوات مع منع العمال الغزيين من العمل داخل الخط الأخضر، نرى الآلاف من الأسر قد انضمت لقوائم المنتفعين بمخصصات وزارة الشؤون الاجتماعية، وكذلك تم إدراجهم للحصول على مخصصات وكالة الغوث الدولية «الأونروا» والتي يتم تقليصها كل فترة حتى وصلت لما هي عليه اليوم من ضآلة وبأنها لا تكفي للأسر الكثيرة العدد، نرى أن ما حدث قد تم مواجهته بالاستسلام وليس البحث عن وسائل وطرق لكسب العيش الشريف والبسيط وما يكفل قوت اليوم لهذه الأسر من قبل أربابها، ولو أن كل رب أسرة تحرك لاستغلال ما لديه من قدرات حرفية أو استغلال قطعة أرض مهملة في البيت أو حتى حديقة أو التفكير باستغلال مواهب الأبناء والبنات في الخياطة والتطريز مثلاً، أو صنع الحلوى والمعجنات وغيرها، لتحولت كل أسرة تتقاضى مخصصات إعانة من هنا أو هناك لأسر منتجة ومهما كان القليل فهذا يساوي الكثير أمام ذل انتظار هذه المخصصات المهددة بالانقطاع أو انتظار وظيفة لخريج قد لا تأتي بسبب قلة الوظائف ووجود الوساطات التي لا تعترف بالكفاءات.
مشروعي هو دعوة لكل أسرة في غزة وفي كل مكان للبحث عن مصدر دخل ولقمة عيش وتحدي كل ما استقرت عليه العقول من عيب ولا يجوز أمام العمل الشريف والذي يغني عن ذل السؤال.