في حياتنا العملية نقرأ عن كثير من التجارب العظيمة، والشخصيات الفريدة، التي قدمت نموذجاً جميلاً في خدمة الإنسان، وبناء الأوطان؛ حتى نستفيد من خبراتها الإيجابية، ونتجنب عثراتها السلبية، غير أننا سنبقى عاجزين عن معرفة تاريخ العديد من النماذج التي لم يتسنى للتاريخ أن يُبرز ما قدموا من بطولات، أو أن يقف على حجم ما بذلوه من تضحيات، نتيجة ما عايشوه من ظروف اجتماعية أو أمنية أو سياسية، أو دينية، فرضت عليهم أن يعملوا بصمت دون ضجيج أو رياء، فأدبر التاريخُ عن بعضهم ولم يُنصف آخرين رغم الصورة الإنسانية الجميلة التي رسموها بأجود الألوان وأحسنها.
مما يجعل المسؤولية الوطنية والأخلاقية أمام المجتمع وفئاته المختلفة كبيرة جداً، ليبذل مزيداً من الجهد والعطاء؛ ليحفظ تاريخه من الضياع والتزوير، خصوصاً ونحن نعيش على أرض فلسطين المباركة التي تُنجب في كل يوم نماذج كريمة في طبعها، عفيفة في لفظها، عزيزة في أمرها، رحيمة بين أبناء شعبها، شديدة على عدوها.
لهذا انبرى قلمي متواضعاً أمام قامة كبيرة من قامات الشعب الفلسطيني، وشخصية كريمة من شخصيات العمل الإسلامي؛ ليسطر شيئاً عن مناقبه التي سطعت من بين سطور التاريخ الذي كاد أن يُفارق الحياة، بموت القلة التي عايشت حالاته العديدة، ومواقفه السديدة، التي عبّرت عن عظيم الاسم الذي كان يحمله، والعائلة التي كان ينتمي إليها، والمدرسة الإنسانية التي تشرّب فكره منها، والحقل الدعوي الذي كان يعمل من خلاله، إنَّه الأستاذ هاني بسيسو – رحمه الله -.
وذلك من خلال مقابلة شفوية أجراها مركز التأريخ والتوثيق الفلسطيني([1]) مع الأستاذ إسماعيل الخالدي([2])، والأستاذ داود أبو خاطر([3])، وبعض المصادر الأخرى.
ولد الأستاذ هاني مصطفى بسيسو عام 1929م في أسرة ٍكريمة ميسورة الحال بمدينة غزة في منطقة الشجاعية، تميز في مراحله التعليمية المختلفة، الأمر الذي مكنه من الحصول على المرتبة الأولى على مستوى قطاع غزة في الثانوية العامة- القسم الأدبي- عام 1947م، وعليه فقد حصل على منحة دراسية في الجامعات المصرية.
نشأ في أحضان أسرة فلسطينية عريقة، تحمل في أصلها جينات العزة والعلم والإباء، فقد كان أبوه شيخاً أزهرياً مشهوراً، ومحامياً شرعياً محنكاً في منطقة الشجاعية بمدينة غزة؛ لذلك حرص على تربيته بشكل جميلٍ يليق بأسرة خرج من بينها العلماء، أمثال العالم الشيخ خلوصي بسيسو.
تخرج عام 1951م من كلية الحقوق بجامعة القاهرة، ثم حصل منها على درجة الماجستير في القانون، وبعدها تزوج من (سعدية سيد الصفطاوي) أخت زميله في التدريس ورفيقه في طريق الدعوة الأستاذ محمد الصفطاوي.
عمل مدرساً في مدرسة النجاة الأهلية بمدينة الزبير في العراق، وقد كان له أثر كبير على الطلاب، وأهالي المدينة التي كان يقطن فيها، والتي خرج منها المفكر عادل عبد الله شويخ الذي كان يذكر هاني بسيسو بالخير والعطاء من خلال كتاباته العلمية، وخطاباته المنبرية.
التحق بسيسو في جماعة الإخوان المسلمين منذ أن كان طالباً في جامعة القاهرة بمصر، حيث تعرف على فكر الحركة وتصوراتها المختلفة للدين والحياة، فبايع الإخوان المسلمين عام 1949م.
وبعد فترة من العمل والعطاء في صفوف الحركة، ظهر تميز الأستاذ هاني بسيسو في طريقة تفكيره وتعاطيه مع مشكلات الحياة، وفي طريقة تعبيره وتفانيه في خدمة الإسلام والمسلمين، فأصبح عنواناً جميلاً لحركة الإخوان، مما دفع قيادة الإخوان المسلمين في جميع الأقطار التابعة لفلسطين أن ينتخبوه مراقباً عاماً للإخوان في فلسطين أسوة بغيرهم في الدول الأخرى، فكان أول من تحمل هذه المسؤولية بهذا الشكل.
يقول الأستاذ داود أبو خاطر: في صيف 1963م كان الأستاذ إسماعيل الخالدي مسؤولاً عن الإخوان المسلمين في قطاع غزة، وكان الأستاذ حماد الحسنات نائبه، غير أنهما لم يكونا موجودين في القطاع، لذلك تم دعوتي لحضور الاجتماع الذي حصل على شاطئ منطقة المواصي في مدينة خانيونس، والذي حضره كلاً من الأستاذ خيري الأغا ممثلاً عن الإخوان في السعودية، والأستاذ جاسر الأغا ممثلاً عن الإخوان في الكويت، والأخ محمد يوسف النجار ممثلاً عن الإخوان في قطر، والأستاذ هاني بسيسو من قطاع غزة، وقد اتفق الإخوة في هذه الجلسة على اختيار الأخ هاني بسيسو مراقبا عاما للإخوان الفلسطينيين في كل الوطن العربي؛ ليكون حلقة الوصل بين مرشد الإخوان في مصر، وحركة الإخوان في فلسطين، كما ناقشوا الأخ محمد يوسف النجار في ميوله ناحية حركة فتح، وتم الاتفاق على ضرورة التمايز بين الاخوان وحركة فتح بشكل عام، فوعدهم أن يحسم أمره بشكل خاص، ويختار أحد الطرفين، إما الإخوان أو حركة فتح، فيما بعد سمعت أنه ترك الإخوة، وانضم لفتح، واستشهد في بيروت مع زملائه الآخرين.
لماذا تم اختيار الأستاذ هاني بسيسو مراقبا عاما للإخوان المسلمين في فلسطين بالإجماع ولم يقع الاختيار على غيره؟ بالتأكيد لم يكن الاختيار عبثاً، وإنما لمواصفات خلقية جميلة، ومؤهلات مهنية كريمة توفرت في شخصه الكريم، فقد كان بسيسو أبيض الوجه، قصير القامة، في مظهره وجاهة واحترام، وفي كلامه حكمة واتزان، وفي أسلوبه تواضع وإكرام.
يقول الأستاذ إسماعيل الخالدي: كان الأستاذ هاني بسيسو إنساناً متواضعاً، وعالماً غزير العلم، إذا جلس معك يعطيك قيمة كبيرة، واحتراماً كبيراً، إذا سألته في أي مسألة كانت ستجد عنده الجواب الذي يشفي النفس، ويكفي الحاجة، كان رجلاً مثالياً في الحياة، متواضعاً بين أحبابه، زاهداً في طريقة عيشه، وقد تمثل ذلك في صورٍ عدة أبرزها ما يتعلق في غرفة استقبال الضيوف وأثاثها، فقد كانت عبارة عن حصيرة فقط، حيث إذا جاء عنده الضيوف كان الحصير موضعاً وحيداً للجلوس معه، مع أنه كان ابن عز ومال، غير أنه فضل الآخرة على الدنيا، فكان يتبرع بكل ما يتبقى لديه من مال على مدار العام، للأعمال الخيرية، ولا يحتفظ بشيء منه.
كان قوله –رحمه الله- حجة على الجميع، إذا انتقد أحد، يلومه بطريقة غير جارحة، لكنها كافية أن تجعله يذوب خجلاً من قوة أسلوبه، ووجاهة كلامه، وهذا ما حصل معي عندما فكرتُ أن أخرج لأعمل في الكويت أو السعودية أو قطر، كان يقول لي: يا أخي لماذا تريد أن تسافر؟ الوظيفة عندك! وعلم ومتعلم! ومتزوج وعندك أولاد! ولديك بيت! لا ينقصك شيئاً من الدنيا! بدك سيارة؟ مستعدون نشتري لك سيارة، قلت له: لا يا أخي، لستُ بحاجة للسيارة، فقال لي: ما في داعي أن تسافر خارج البلد، الأولى أن تخدم أبناء وطنك، وتدعوهم إلى الإسلام وإلى الطريق الصحيح، فكان يناقشك مناقشة موضوعية.
كان لا يقطع أمراً من غير شورى، رغم ما هو عليه من علم كبير، وعمرٍ جميل، فنحن أصغر منه بكثير، فقد كان يكبرني بعشر سنوات تقريباً، إلا أنه كان يشاورنا في كل شيء، رغم مكانته التنظيمية الرفيعة، أرسل لي ذات مرة، فحضرته، فقال لي: الحكومة في هذه الأيام تقوم باعتقالات عشوائية لأعضاء الإخوان، ومعي بعض الأموال الخاصة للتنظيم، ما رأيك أن نُعطي كل أخ 100-200 جنيه؟ يحتفظ بهم، حتى نقول لا يوجد أموال لدينا في حال تعرضنا للاعتقال! فكان عنده لباقة في الأسلوب، وعمق في التفكير، وشورى في اتخاذ القرار.
ويقول الأستاذ داود أبو خاطر: كان الأستاذ هاني بسيسو مربياً فاضلاً في أقواله وأفعاله، في مظهره ومشيته، في أسلوبه وأطباعه، كان يعلمنا كلّ شيء، ويربينا على أحسن العادات وأفضلها، أذكر منها طريقة ربط الحذاء، حيث كان يقول لنا: إذا أردتم ربط أحذيتكم، تعودوا أن ترفعوا أقدامكم إلى أعلى ثم قوموا بربطها، لا تركعوا على أقدامكم لتربطوها، فإنَّ ذلك يربي الإنسان على الذلة والخضوع، فالمؤمن كريم في طبعه، عزيز في نفسه، فضلاً عن أنه تمرين للجسد الذي يُكسب الإنسان قوة في جسده، وخشونة في حياته، التي قد يُفسد أمرها الراحة، والاتكال.
هذه الصفات الجميلة التي ذكرها الأستاذ إسماعيل الخالدي، والأستاذ داود أبو خاطر، وغيرها مما جاء في كتابات أخرى أمثال المستشار عبد الله العقيل، والأستاذ حسن عبد الحميد صالح، ود. عبد الله أبو عزة، في حق الأستاذ هاني بسيسو تؤكد على دوره المميز، ومكانته العظيمة في نفوس من عايشه أو اقترب منه، من خلال خدمة الإنسان، وبناء الأوطان.
هذا النشاط المميز وهذه الهمة الوثابة لدى بسيسو لم تلفت انتباه الصديق فقط، بل أثارت التساؤلات لدى الخصوم، فوضعوه تحت المراقبة إلى أن تم اعتقاله عام 1965م في سجون السلطات المصرية بحجة الانتماء إلى التنظيم السري لجماعة الإخوان المسلمين الذي كان يقوده المفكر الإسلامي سيد قطب.
يقول الأستاذ إسماعيل الخالدي: بدأت قصة اعتقال هاني بسيسو عندما اعتُقل نائبه الدكتور عبد الرحمن بارود، إثر اعتراف شابان من الإخوان المسلمين عليه، بعد أن جاؤوا إليه ليطلبوا مساعدات مالية لأسر أعضاء الإخوان الذين تم اعتقالهم في سجون السلطات المصرية، وذلك من خلال معارفه في دول الخليج، وبناء على ذلك الاعتراف جاءت قوات أمنية فتشت بيت الدكتور عبد الرحمن بارود فوجدت مبلغاً مالياً قيمته 250 جنيها، فسألته عن طبيعة هذا المبلغ، فقال: إنه لطباعة أطروحة الدكتوراه ومستلزماتها الطبيعية، فاعتقلوه.
عندما علم الأستاذ هاني بسيسو بخبر اعتقال الدكتور عبد الرحمن بارود غادر مصر، واتجه إلى قطاع غزة، وبعد أربعين يوماً تم اعتقاله في غزة، أذكر في يوم اعتقاله كان لي موعد معه قبل المغرب، وكانت الأجواء في تلك الأيام يسودها الاعتقالات الكبيرة لقيادات وأفراد الإخوان المسلمين، فقلتُ في نفسي سأذهب بعد المغرب حتى لا يراني أحد، وكنتُ حينها أرتدي بجامة البيت، فقررت أن أذهب بها حتى لا يشك أحد في طبيعة مشواري، وما إن وصلت بيت الأستاذ هاني وطرقتُ الباب، خرجت أخته، وقالت لي: أنَّ أخاها قال لها عندما يأتي إسماعيل قولي له أنه اعتقل من قبل السلطات المصرية، فسبحان الله كان تأجيلي للموعد المحدد سبباً في تأخير اعتقالي الذي تم فيما بعد.
اعتقلوا الأستاذ بسيسو، وبدأوا بضربه دون توجيه تهمة مباشرة له، هذه كانت طريقتهم المعتادة في التحقيق، لا يسألون أحداً عن صلته بالإخوان، أو طبيعة عمله في التنظيم، وإنما يُعلقوه ويجلدوه، ويقولوا له تكلم أي حاجة تعرفها، وهذا ما حصل مع الأستاذ هاني، عذبوه حتى ذابت قدماه من شدة التعذيب، قال لهم: أنا المراقب العام لتنظيم الإخوان في فلسطين، قالوا له: اكتب لنا خريطة التنظيم، واكتب أسماء جميع الناس المنتمين له، فكتب خريطة وضع فيها قطر، والسعودية، والكويت، وغزة، وسوريا، ووضع نائبه، والرئيس، وكتب أسماء كل واحد في البلدان المذكورة، وبعد أن انتهى من ذلك، قالوا له ما قصة الورقة التي وجدنا فيها أنَّ فلاناً أعاد لك مبلغاً قيمته 500 جنيه، قال: استلفه مني، وبعد أن قام بتسديده أرجعت له الورقة التي قد كنا كتبناها لحفظ الحقوق، قالوا له: لكنه استخدم هذا المبلغ لتنظيم الإخوان، فقال لهم: لا أدري أين أنفقه، إنسان جاء ليستلف مبلغاً شخصياً نظراً لمعرفته بي، وقدمتُ له خدمة إنسانية دون سؤاله عن وجهة المبلغ، ولماذا؟
وعليه فقد حاسبوه على ما اعتبروه مخالفة (تهريب الأموال) من غزة إلى مصر دون المرور عن طريق البنك- رغم أنه كان مسموحاً لأهل غزة أن يتنقلوا بالأموال إلى مصر دون مشاكل- ولم يحاسبوه على قيادة تنظيم الإخوان في فلسطين، لأنَّه فلسطيني، وفلسطين ليس لها شأن في المؤامرة على مصر حسب زعمهم، فحكم ثلاث سنوات، وغرامة مالية كبيرة.
وبعد أن أنهى مدة الحكم المذكورة لم يُفرج عنه، وإنما بقي معتقلاً تحت مظلة التمديد حتى مرض مرضاً شديداً، وتوفي في السجن عام 1970م بالحمى الشوكية.
هذه هي أبرز مناقب الأستاذ هاني بسيسو، وجهوده المباركة في خدمة الإنسان وبناء الأوطان، رغم قصر عيشه في الحياة، إلا أنه كان عنواناً جميلاً للإنسان العزيز الكريم، أعلم أنَّ هذه السطور وغيرها لن تُعطي هذا الرجل حقه وقيمته التي يستحقها، مهما تفننا في صف العبارات الرنانة، والشعارات الطنانة، فمشقة العمل والعطاء، وحسن الصحبة والارتقاء، وعظيم التضحية والفداء، لا يمكن أن تفي الرجال وصفهم، أو تنُزل القامات مكانتهم.
رحم الله الأستاذ هاني بسيسو، وأعلى مقامه، وجعل الفردوس الأعلى منزلة دائمة له، ولأمثاله من أبناء أمتنا العربية والإسلامية.
[1])) تأسس مركز التأريخ والتوثيق الفلسطيني في غزة عام 2001م على أيدي ثلة من الأكاديميين الباحثين في الدراسات التاريخية، وهو يعني بجمع التاريخ الشفوي الفلسطيني المعاصر، وحفظ الوثائق الفلسطينية على اختلاف أنواعها.
([2]) إسماعيل عبد العزيز الخالدي: ولد بتاريخ 15/10/1937 في قرية كرتيا المحتلة- قضاء غزة- وتعلم فيها حتى بداية الصف الخامس الابتدائي، لجأ مع عائلته إلى غزة سنة 1948م، وفيها أكمل دراسته حتى نال شهادة الثانوية العامة من مدرسة فلسطين عام 1956م، في عام 1964 حصل على الليسانس في التاريخ من جامعة الاسكندرية، وفي عام 1982 حصل على الماجستير في الدعوة الإسلامية، انضم إلى جماعة الإخوان المسلمين عام 1950، وانتخب رئيساً لها في قطاع غزة عام 1963م حتى 1967، عمل محاضراً في عدد من المواقع التعليمية في الأردن والسعودية، وله العديد من الكتب المطبوعة.
[3])) داود أبو خاطر: ولد عام 1938م، نشأ وترعرع في مدينة البريج وسط قطاع غزة، انضم إلى الإخوان المسلمين عام 1953م، وذلك من خلال أستاذه في المدرسة الثانوية صباح ثابت، حيث كان يأخذ الطلاب إلى شعب الإخوان قبل أن تُصبح حركة محظورة، أنهى الثانوية العامة، وحصل على الشهادة الجامعية، وعمل في سلك التعليم فترة كبيرة حتى تقاعد.