هامش ثانٍ على «النار والغضب»..!! حسن خضر

الثلاثاء 23 يناير 2018 10:52 ص / بتوقيت القدس +2GMT
هامش ثانٍ على «النار والغضب»..!! حسن خضر



حتى يوم أمس، كانت الحكومة الفيدرالية، في الولايات المتحدة، مشلولة لليوم الثالث على التوالي نتيجة خلافات في الكونغرس. 
والمهم أن أبرز عناوين الصحف، ووسائل الإعلام، جاءت على النحو التالي: «ما يُعقّد المأزق أن الرئيس غير متأكد تماماً مما يُريد». يعني لا يعرف ماذا يختار. 
يعرف كل مَنْ قرأ كتاب «النار والغضب» أن ترامب شبه أمي، ومريض بنفسه، يريد أن يُعجب به الناس، وأن يربح المال، بلا قيم، ولا هموم سياسية أو أخلاقية. وحتى مسألة الرئاسة لم تكن لتخطر له على بال لولا قيمتها التسويقية. 
لم يكن متأكداً من الفوز، ولكنه كان واثقاً من أن التنافس على منصب الرئيس سيمنح اسم ترامب قيمة تسويقية عالية. 
وهناك، مثلاً، موضوع «أوباما كير»، الذي وعد الناخبين بإلغائه، فبعد وصوله إلى البيت الأبيض أدرك مساعدوه أن رئيسهم لا يعرف، فعلاً، الفرق بين إلغاء التأمين الصحي، أو الإبقاء عليه. فالمهم نفوذ آخر مَنْ يهمس في أذنه، لا قيمة الشيء نفسه.
ولكن، يسأل ما لا يحصى من الناس، في أربعة أركان الأرض، كيف تسنى لشخص كهذا أن يعتلي سدة الحكم في انتخابات ديمقراطية؟ ألا يدل الفوز على ثقة ملايين الأميركيين، ورهانهم عليه، وعلى وعوده الانتخابية؟ لدينا الكثير مما يُقال في هذا الشأن.  
ومع ذلك، «النار والغضب» ليس عن: كيف ولماذا فاز ترامب؟ بل عن البيت الأبيض في عهده، وفيه ما يكفي من الشواهد للتدليل على حقيقة أن ترامب يشبه حصان طروادة، وقد تسللت به، ومعه، وفي جوفه، قوى متنافرة ومختلفة إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة. 
بمعنى آخر: ثمة أكثر من فرق بين ترامب الشخص، والترامبية كمنظومة سياسية وأيديولوجية.
فترامب الشخص مجرّد مُهرّج. الولد الغني الذي ينحدر من عائلة مهاجرين، لم يتعلّم كما يجب، وعلى الرغم من اللعب بالملايين، والمليارات، إلا أن شغل العقارات، وقلة التعليم، والذوق الشخصي السقيم، والسلوك المُبتذل، لم تمكنه من الانتماء إلى الأرستقراطية الأميركية الرفيعة والمُترفعة، صاحبة النفوذ، والامتيازات الطبقية، والمكانة الاقتصادية والسياسية المكفولة والمضمونة. لذا، ظل دائماً على الهامش، وكان في صخبه، وسلوكه المثير، ما يوحي «بالعداء للمؤسسة» من ناحية، ورغبة دفينة أن تقبل به المؤسسة نفسها، وأن تعترف بجدارته في الانتماء. 
ترامب الشخص تنقّل بين عضوية الحزبين الجمهوري والديمقراطي أكثر من مرّة، ودعم الحملات الانتخابية لديمقراطيين وجمهوريين، بالمال، أكثر من مرّة. ومع ذلك، الأرستقراطية الأميركية لم تعامله باحترام، وإن اضطرت للتعامل معه، أما أوساط الليبرالية، ونسبة لا بأس بها من ممثليها تنتمي إلى الأرستقراطية، وكبرى العائلات، فعاملته باحتقار، لأن مواقفه من النساء، والسود، والمهاجرين، والمسلمين، واليهود (إذا شئت) كانت بغيضة، ولا تُحتمل.
أما الترامبية كأيديولوجيا وسياسة فهي صناعة اليمين. وعندما نقول اليمين الأميركي فلنضع في الاعتبار أننا نتكلّم عن ظاهرة متعددة الأطياف، والأطراف، والبرامج، والسياسات. وأن الأرستقراطية، وكبرى العائلات، تحظى بتمثيل واسع هناك. 
وخلف هذا اليمين، وفي ثناياه، مراكز أبحاث، ومنابر إعلامية عملاقة، ووقفيات مالية، ودعائم اقتصادية وأيديولوجية في وول ستريت والجامعات. ومع هذا كله هناك في صفوف اليمين أصحاب مليارات يتصرّفون بوصفهم أصحاب قضايا، أيضاً. 
وقد تنحصر قضية البعض في مكافحة الإجهاض، مثلاً، وقد تتخطى الحدود، في حين آخر، لتصل إلى ضرورة دعم إسرائيل ظالمة ومظلومة. وبين هذه وتلك ما لا يحصى من ألوان الطيف. 
المهم، أن اليمين التقط ظاهرة ترامب الشخصية التلفزيونية، المريض بنفسه، الذي يغازل جماعات يمينية ترد على التحية بأحسن منها، كما حدث مع محطة فوكس نيوز (منصّة رئيسة لليمين في أميركا كما «الجزيرة» منصة لليمين الديني في العالم العربي)، وتم زواج مصلحة بين الاثنين، ومن زواج المصلحة هذا وُلدت الترامبية كأيديولوجيا سيئة التعريف لكنها تحظى برواج لدى ناخبين من الطبقة العاملة البيضاء، وشرائح دنيا من الطبقة الوسطى في «حزام الصدأ» وهؤلاء يصعب التقليل من شأنهم.
وعندما نتكلّم عن الترامبية كصناعة لليمين، ينبغي التذكير بحقيقة أن هذا اليمين ملتبس الهوية، أيضاً، فقد تختفي حتى الحدود الأيديولوجية التقليدية بين محافظين وليبراليين في بيئة نيويورك الجمهورية والديمقراطية على حد سواء، ولكن يمكن العثور في أوساطه، أيضاً، على جماعات عنصرية، ونازية، صريحة وسافرة. 
لم يكن ترامب مقبولاً من الجميع في معسكر اليمين، ولكن الرهان عليه تزايد مع نجاحه، بدعم من أصحاب مليارات لا ملايين في الواقع، في الإطاحة بمنافسيه الجمهوريين، ومع كل تقدّم جديد في الحملة الانتخابية زاد رهان اليمين على ترامب، وزاد التنافس بين أطراف مختلفة على تشكيل سياساته، وهويته الأيديولوجية. وفي سياق كهذا التحقت أطراف من معسكر اليمين بحملته في مراحل مختلفة.
ومن هؤلاء ستيف بانون، الذي تولى إدارة الحملة، ويُوصف، عادة، في وسائل الإعلام كممثل لأقصى اليمين. خدم المذكور في وقت سابق كضابط في البحرية الأميركية، وتولى تحرير موقع إعلامي لليمين يُموّله صاحب مليارات (من أصدقاء ترامب، أيضاً)، وبعد وصول ترامب إلى البيت الأبيض أصبح كبير مستشاريه حتى إقالته في (آب) الماضي. وعلاوة على هذا كله يُعتبر أحد المصادر الرئيسة التي اعتمد عليها مايكل وولف في «النار والغضب».
لم تكن رئاسة ترامب، في نظر بانون، سوى خطوة أولى، وفترة انتقالية، في تاريخ أميركا، وسواء طالت أو قصرت مدتها، فهي ليست أكثر من مجرّد مدخل لتحقيق الثورة الترامبية، التي ستمكّن الأميركيين من بدء عهد جديد، وتجاوز مكامن الضعف في سياسة الجمهوريين والديمقراطيين على حد سواء. ولنا عودة.