هل ارتقى اجتماع المجلس المركزي في رام الله الى مستوى الجواب عن الأسئلة او التحدي او التوقعات، التي كانت الأساس في أسباب انعقاده؟ ولنلاحظ ان مصطلح "ارتقاء" هو فلسطيني في العموم ويطلق على الشهداء رحمهم الله الذين وحدهم يرتقون بشهادتهم أمام الله الى عليين، ولكنه في هذا السؤال مأخوذ من أدبيات الفصائل الفلسطينية المعارضة "حماس" على وجه الخصوص، ولذا فان طرح السؤال بهذه الطريقة هو ضروري الآن في إطار الحوار الفلسطيني الداخلي، اذا كان انعقاد هذا البرلمان الفلسطيني المصغر او الوسيط انما كان بالأساس مرة أُخرى لكي يجيب عن أسئلة فلسطينية خالصة. ولعل في صلبها سؤال مركزي واحد "ما العمل؟" او ما هي الخيارات او هوامش المناورة المطروحة أمامنا وعلى أي أرضية نقف؟ وما هي معادلة الفرص والمخاطر؟
والواقع ان المجلس المركزي قال بوضوح ان الوضع القائم لم يعد ممكناً استمراره او التعايش معه، ولكن الدلالة الأهم برأيي في النتائج او التوصيات التي انتهى اليها انما تكمن في المسار السياسي، الذي تم وضع العلامات او الإشارات على طريقة الانفصال السياسي عن الروابط او العلاقة مع إسرائيل، كبديل او مقدمة فعلية او عملانية للانفصال المادي او الوجودي الواقعي عن الاحتلال. أي بعبارة اخرى كتمهيد وكجزء من استراتيجية الوصول الى تحقيق التحرر والاستقلال.
هذا هو اذن الوقت الذي أملى على القائد استدعاء الرواية التاريخية للإضاءة عبر هذه السردية، عند هذه اللحظة من الشعور الجماعي الذاتي على المكان العميق الذي تسبب في حدوث المصيبة او النكبة، وصولا الى الأزمة الراهنة. فلقد تم اختراع إسرائيل على ايدي أقوياء العالم في حقبة صعود الاستعمار وتحول الرأسمالية الى استعمار، وان اسرائيل حملت وما زالت عناصر وآثار هذه القوة ليس عبر التسليح وحده، ولكن "الحماية الدولية" التي لوح بنزعها باراك اوباما على نحو نادر عن إسرائيل العاصية، أثناء الصدام الذي جرى بين أميركا القيصر والتابع.
وليست المسألة ترفاً فكرياً أو ميلاً الى الخطابة المدرسية، ولكن لعل هذا الخطاب غير المسبوق في سرديته التاريخية بهذا التكثيف، إنما كان المحاولة بالغة الأهمية والضرورية لإعادة تأصيل الوعي بما حدث في الماضي، لكيما تستطيع الاستراتيجية الفلسطينية السيطرة على المستقبل والوصول الى الهدف. والمسألة واضحة، اذا كانت إسرائيل أقيمت من الخارج وبقوة هذا الخارج على حد سواء، وما زالت تحمل سمات قوة هذا الخارج فان مصيرها ومستقبلها هو رهن إرادة وموقف هذا الخارج.
واليوم لعلنا نذهب أبعد من ذلك، فإن إسرائيل التي وُلدت من رحم الموجة الاستعمارية، تحولت منذ وقت الى ما يشبه التركة السياسية والمذكرة بأشد مساوئ هذا الاستعمار القديم، وكما لو ان احتلالها المتواصل اصبح يماثل "البؤرة" التي تحوي كل المظاهر والأشكال العنصرية والوحشية وصولاً الى الفاشية والنزعة العرقية.
ولاحظ باحث وبروفيسور أميركي في تسعينات القرن الماضي في كتاب نشره بعنوان "اختراع اسرائيل التوراتية"، ونحن نقتبس هذا المصطلح منه انه ما لم يعاد طرح النقاش الى هذه الجذور التاريخية لإنشاء اسرائيل، فانه لا يمكن إنهاء هذا الاحتلال وحل الصراع. فهل أراد الرئيس ابو مازن في خطابه التقرب بصورة غير مباشرة او ضمنية في إعادة طرح الجذور الحقيقية للمسألة والصراع، الى تحضير الوعي او الموقف الفلسطيني لسحب الاعتراف بإسرائيل او نزع الشرعية عنها؟ فيما يبدو ان هذه الاستدارة اذا فشل عرض السلام او النزعة البراغماتية الفلسطينية مع إسرائيل، سوف تعود بالفلسطينيين حتماً الى نقطة البداية او الى ذاتهم، أي الى الموقف الذي كانوا عليه العام 1948.
والواقع ان الفلسطينيين لا يبدون كما لو ان ظهرهم الى الحائط او انهم محشورون في الزاوية، ولعل الخطاب الذي استحق اهتمام العالم كان يعكس قدراً واضحاً من الميل الى التحدي وثقة الفلسطينيين بأنفسهم، امام الوضع الذي يواجهونه. وما حدث انه في شهر واحد نجحوا في توجيه ضربة بل صفعة قوية لما بدا أنها محاولة للالتفاف على المبادرة العربية، او اختراق هذه الآلية التي يقوم عليها تنفيذ هذه المبادرة عبر وضع العربة أي التطبيع المجاني أمام الحصان.
وبموازاة ذلك استطاعوا نزع الشرعية عن الوساطة الأميركية المنفردة، واعطوا بهذا التحدي الذي سُمع صداه في العالم، الدعم والتشجيع لأوروبا ان تغادر ترددها السابق والتقدم الى امتلاك الجرأة لطرح دورها بقوة، باعتبار ان السلام وحل الدولتين مسألة لم تعد ممكن تركها بيد هذه الإدارة الأميركية ورئيسها، وعلى غرار الاتفاق النووي مع ايران هي مسألة امن قومي للاتحاد الاوروبي.
ان قوتنا التي اكد عليها اجتماع المجلس المركزي وتحققنا منها من قبل هي في قدرتنا ان نقول لا، حينما تتطلب المصلحة العليا قول الفلسطينيين هذه الـ " لا " النافية او القاطعة او الناهية. ولكن قوة المراس السياسي او الذكاء القيادي في حالتنا الفلسطينية المعقدة، إنما تكمن طوال الوقت في التطبيق او الإلهام اللامع لقانون الجدل او الديالكتيك الماركسي، في القيام بهذا السير الحلزوني على هذه الدوائر المتقدمة الى الأعلى او الى الأمام، أبدا على طريقة "نفي النفي" وليس القطع او الكسر.
وهذا هو مغزى الإجراءات او القرارات التي اتخذها المجلس، واذ كانت قوتنا تالياً تتحدد بقدرتنا على البقاء، نحن الباقون هنا على هذه الأرض الى يوم الدين، فان القادة المهرة هم الذين يكسبون المعارك احياناً بدون قتال فعلي، ولعل هذا القياس يصلح في مسارنا على هذه القدرة في السير على خط رفيع او بين الألغام، وعلينا ان نحاكم او نرى الى المسألة على هذا النحو.