شهدت فترة الستينيات من القرن العشرين محاولات ثلاث لتدوين تاريخ مصر من خارج مَن يعملون في عِلم التاريخ (طارق البشري – رفعت سعيد – صلاح عيسى). فكان المؤرّخون يَعتبرون مَن يكتب من خارج فريقهم كأنه انتهاك لهذا التخصّص. وأثبتت التجربة أن كتابة هؤلاء الثلاثة للتاريخ كانت إسهاماً في تدوين تاريخ مصر.
إستفاد صلاح عيسى في فترة الخمسينيات من القرن الماضي، بعد تخرّجه من الجامعة وحصوله على بكالوريوس الخدمة الاجتماعية من عمله كباحث اجتماعي في الريف المصري، في التعرّف إلى الأحوال الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ومكّنته من أن يكون أحد المؤرّخين الذين يُستنَد إليهم عند الحديث عن تاريخ مصر من الثورة العُرابية حتى عهد محمد حسني مبارك.
صلاح عيسى مُثقّف موسوعي مُتعدِّد المواهب، فهو المؤرِّخ والصحافي والأديب وسجين الرأي. له تجربة تُعيد إلى ذاكرتنا الصحافية روّاد الصحافة: جرجي زيدان، الأخوان تقلا، محمّد التابعي، محمّد حسنين هيكل، أحمد بهاء الدين، صلاح حافظ، إحسان عبد القدّوس.
بدأ عيسى بنشر كتبه عن التاريخ بعد قراءة طويلة ومناقشة مُعمّقة مع متخصّصين قي التاريخ، وعمل دؤوباً في البحث عن وثائق تاريخية نادرة. بدأت رحلته في كتابة التاريخ ابتداء من دراسته المهمّة عن الثورة العُرابية التي نشرها له على حلقات المُشرِف على الصفحة الثقافية في جريدة المساء عبد الفتاح الجمل من منتصف ستينيات إلى أوائل ثمانينيات القرن الماضي. فالجمل له فضل كبير في تشجيع ودعم جيل الستينيات من الكتّاب الذين برزوا في ما بعد: جمال الغيطاني، ويحيى الطاهر عبدالله، محمّد البساطي، إبراهيم أصلان. فلا يوجد أحد من هؤلاء في مصر إلا ويُدين للجمل بفضل اكتشافه وتشجيعه. يقول عنه الناقِد محمّد عبد الفتاح إنه "كان يؤجّل نشر مقاله لينشر بدلاً منه مقالاً لشابٍ موهوب".
وكان أبلغ ردّ من صلاح عيسى بأنه اقتحم عِلم التاريخ وكأن لا أصحاب له. وقد ابتدأ ذلك في كتابه الثورة العُرابية – وهو الكتاب المُفضَّل لديه - والذي اعتُبر من أهم الكتب التي أحاطت بموضوع عُرابي وما فعله الاحتلال الإنكليزي. فدعّم كتابه هذا بكل ما توافر لديه من مخطوطات ووثائق، وهو الذي اشتُهِر عنه بأن إحدى هواياته وشغفه الأول النبش في الأرشيف والمكتبات القديمة، ما نتج منها بحثه المهم عن مصطفى كامل وكتابه "البرجوازية المصرية وأسلوب المفاوضة".
كما اعتُبرَت المقدّمة التحليلية لكتاب "الاخوان المسلمين" للكاتب الأميركي ريتشارد ميتشيل الذي ترجمته ونشرته "دار مدبولي"، أفضل من أطروحة ميتشيل نفسه. فقد اشتهر عيسى بأنه من أقسى النقّاد لتجربة الأخوان التي يقول عنها "مشكلة الجماعة ــ كما قلت أكثر من قوّة ــ إنها تنظيم ضخم بلا رؤية، وحشد مُترهّل بلا رأس، وعضلات مُتورِّمة بلا عقل، لأنها لم تحاول في أيّ يوم من الأيام، أن تجتهد لكي توائم بين الأفكار الإسلامية، وبين ضرورات الدولة المدنية".
لكل ذلك، نجح صلاح عيسى في أن يضع نفسه في عِداد مؤرّخي مصر من خلال البحث والتنقيب، وأضحت كتاباته التاريخية، التي يستند فيها إلى وثائق ومعلومات موثّقة، مرجعاً لدارسي التاريخ.
يروي رفعت سعيد أنه أهدى أول كتاب أصدره إلى صلاح عيسى وطارق البشري،"فهما فخر مؤرّخي جيلنا".
بدأ عيسى مشروعه الثقافي أديباً، فكتب أول مجموعة قصصية له في السجن. يقول عن تجربته:"السجن تجربة جميلة، فيه أنتجت أول مجموعة قصصية. تمنّيت لو أن الحكومة تعتقلني كل عام شهراً ونصف الشهر للتأمّل والتفكير في الكتابة أكثر".
اعتُقِل عيسى خمس مرات. الأولى كانت عام 1966 وتعرَّض فيها لأبشع أنواع التعذيب. يقول عنه رفيقه في السجن آنذاك الأديب الراحل جمال الغيطاني:"لقد سحلوا صلاح عيسى وعلَّقوه ولم يعترف علينا". ورغم قسوة التجربة فقد ظلّ مؤيِّداً للرئيس جمال عبد الناصر لالتزامه بالعدل الاجتماعي. وكان سبب اعتقاله نشْره سلسلة من المقالات المهمّة حول الانزلاق الطبقي بعنوان «تجربة ثورة يوليو بين المسار والمصير» في جريدة (الحرية) في منتصف عام 1966.
وقد لعب الحظ دوره لأن كاتباً كبيراً، مثل جان بول سارتر، في زيارته الوحيدة إلى القاهرة في آذار/مارس 1967، طلب من عبد الناصر الإفراج عن المُعتقلين السياسيين، وقدّم له قائمة أسماء على رأسها عيسى وصلاح حافظ. فوعده عبدالناصر بالإفراج عنهم قبل مغادرته القاهرة. ولو لم يحدث ذلك لبقوا في المُعتقل لمدة أطول، لأن مَن سقط اسمه من ثقوب تلك القائمة، بقي لسنوات في المُعتقل بعد الإفراج عنهم، لأن النكسة وقعت بعد ذلك الإفراج بشهرين. ثم تم اعتقاله عام 1968 بتهمة مشاركته بتظاهرات الطلبة التي طالبت بمحاكمة ضبّاط الطيران المسؤولين عن هزيمة 1967. كما سُجِن عام 1977 إثر انتفاضة الخبز، وعام 1981 تم اعتفاله مرتين: الأولى في سجن القلعة بعد أن تظاهر مع رفيقه حلمي الشعراوي أمام الجناح الإسرائبيلي في معرض القاهرة الدولي للكتاب وتوزيعه بياناً يُحرِّض على مقاطعته.
كان يصف سجن القلعة بكل تفاصيله، فهو "مُكوَّن من 30 زنزانة على ثلاثة أجنحة وعنبر كبير، ولكل زنزانة باب مُصفَّح من الحديد وآخر خشبي ضخم مُزوَّد بثقوب في أسفله لدخول الهواء ونظارة لكي يُراقب منها الحارس السجين داخل الزنزانة، ولا توجد غير نافذة واحدة أعلى الباب، قُطرها 30 سم في 40 سم". إلى آخر التفاصيل الدقيقة.
والاعتقال الثاني كان في سجن ليمان طرّة ضمن اعتقالات أيلول/سبتمبر 1981 مع محمّد حسنين هيكل وفؤاد سراج الدين وميلاد حنا وفتحي رضوان وقيادات إسلامية ومسيحية.
ويقول عيسى عن فترة اعتقاله الأخيرة في الزنزانة رقم 2 في عنبر الاستقبال في سجن ليمان طرّة إنهم كانوا أربعة في زنزانة: الشاعر أحمد فؤاد نجم وكاتب القصّة إبراهيم منصور، والمخرج السينمائي كامل القليوبي والفنان التشكيلي عز الدين نجيب. والزنزانة رقم 20 ضمّت عيسى والناقِد عبد الرحمن أبو عوف ومُبدعين آخرين.
كتب صلاح عيسى على جدران الزنازين التي سكنها وهو يسمع صُراخ الذين كانوا يُعذَّبون:"في هذا المكان سُجِنتُ لأنني أحببت الوطن وناديت بالعدالة وأهنت إسرائيل. إمضاء: صلاح عيسى".
في نهايات عصر الرئيس أنور السادات صدرت صحيفة الأهالي برئاسة تحرير محمّد عودة، إلا أن أغلب أعدادها كانت تُصادَر بقرارات من محاكم الأمور المُستعجلة. وبعد اغتيال السادات، انتقلت السلطة إلى حسني مبارك الذي تعلَّم من حادث المنصّة ضرورة أن يوسِّع هامش الحريات. فبدأت صحيفة الأهالي إصدارها الثاني برئاسة تحرير حسين عبد الرزاق ومدير التحرير صلاح عيسى لمدة سبع سنوات، فكانت أكثر الصحف معارضة وتأثيراً، ووصل توزيعها إلى ما يتجاوز 150 ألف نسخة، إلى درجة أن أعداداً كبيرة من القرّاء كانوا ينتظرون مساء الثلاثاء أمام مطابع الأهرام ليأخذوا عدد صحيفة الأهالي قبل أن يوزَّع في اليوم التالي.
وكان صلاح عيسى بشرعيّته النضالية – خمسة اعتقالات- نجم الساحة يومذاك، فهو يمتلك كل شروط الكاتب التي طالما تدرَّب عليها ومارسها في السجن، فأنتجت أسفاراً تُعتبر مرجعاً أساسياً لكل المُتخصّصين في تاريخ مصر.
رحلَ عيسى وهو يرأس مجلس إدارة صحيفة القاهرة. وصدر له 20 كتاباً في التاريخ والفكر السياسي والاجتماعي والأدب منها: تباريح جريج، ومثقّفون وعسكر، ودستور في صندوق القمامة، ورجال ريّا وسكينة، وحكايات من دفتر الوطن وغيرها.
لا خوف على تُراث عيسى من الضياع - كما ضيّع الكثير من ورثة الأدباء تراث آبائهم - فزوجته أمينة النقاش التي تترأس اليوم تحرير صحيفة الأهالي قالت في حديث خاص للميادين نت إنها لن تترك تراثه يضيع، وقد بدأت بالفعل الطلب من الهيئات الثقافية الرسمية في القاهرة التعاون على جمْع وطبْع كل مؤلّفات عيسى، فطَبْعها ضروري لأن أدبيات عيسى تختصر تاريخ مصر من عُرابي حتى اليوم.
عن الميادين